د.عبد الرحمن الحبيب
قبل ثلاثين عاماً زرت لواء اسكندرون في تركيا، الذي يعد من وجهة نظرنا العربية منطقة سورية عربية.. دفعني فضولي أن أسأل كثيراً من العرب هناك عن شعورهم بالانتماء للدولة التركية أم السورية؟ كانت إجابة الجميع قطعية بأنه للتركية، بل بعضهم سخر من سؤال إجابته بديهية.
لن أنسى أحدهم حين قال: هل أنت مجنون، ألا ترى الفرق!؟ السبب كان واضحاً بالنسبة لهم، وهو أن مستوى المعيشة لديهم أفضل كثيراً مما لو كانوا في سوريا، رغم أن هويتهم اللغوية آنذاك كانت مهمشة. يبدو أن أهم عامل (من جملة عوامل) لتماسك الانتماء وإخماد الاضطرابات الطائفية والانفصالية التي تشهدها بعض الدول العربية هو توفير ظروف الحياة المعيشية الكريمة.
مستوى المعيشة بلغ من السوء في بعض الدول العربية أن ترغب إحدى مناطقها أو مكوناتها الاجتماعية بالانفصال ليس لأسباب الهوية (الطائفية أو العرقية) بل لظروف معيشية وأمنية قد تلبس لاحقاً أي لباس فئوي؛ فالضرورة المعيشية قد تشجع على دعوات الانفصال في أي بلد مهما كان متماسكاً، وأبسط مثل عالمي حالياً إيطاليا، حين يطالب الشمال الغني بالانفصال عن الجنوب الفقير لأنه يثقله بأعباء اقتصادية.
بيد أن هناك مقولة منطقية مكررة، ازدادت تكراراً بعد اضطرابات «الربيع العربي»؛ تبدأ مقدمتها بالعبارة التالية: قُسِّمت الدول العربية بطريقة مصطنعة أنشأها الاستعمار؛ وتنتهي بالنتيجة المتسقة استنباطياً: لذا فهذه الدول أو حدودها سرعان ما تنهار عندما تحصل اضطرابات؛ والمثال النموذجي هو العراق وسوريا.
أكثر من يكرر هذا المنطق هم ذوو الميول القومية العربية إضافة -وللمفارقة- كثير من المحللين الغربيين خصوصاً الأوربيين. وإذا كانا يتفقان في المقدمة والنتيجة، فإنهما على طرفي نقيض في تحديد الاتصال الكامن بين المقدمة والنتيجة. التحليلات الغربية ترجعه إلى عدم الانسجام المجتمعي (التاريخ الاجتماعي المشترك) داخل هذه الدول نتيجة الفروقات الفئوية (الطائفية، العرقية، اللغوية..)؛ فالأنسب كان بتقسيم الدول العربية وفقاً لانسجامها الإثني. إنهم يرون الطائفية سبباً للاضطرابات الحالية في الشرق الأوسط.
هذا السبب الطائفي يتهاوى أمام منطق عملي، وهو أن الاستقطاب الطائفي لم يظهر إلا بعد الفوضى والانفلات الأمني وعجز السلطة المركزية في العراق وسوريا. إذن، الطائفية ليست السبب بل النتيجة. خذ مثلاً ليبيا ليس لديها مسألة طائفية ومع ذلك تعاني من حرب أهلية مثل سوريا. التاريخ الاجتماعي المشترك ليس شرطاً لبناء دولة أو لعدم انهيارها، بل هناك دول حديثة جداً مختلطة الأجناس والأعراق وهي على قمة الازدهار العالمي كسنغافورة وسويسرا، لكنها تتميز بالحكم الرشيد، وهذا ما افتقدته بعض الدول العربية وفي مقدمتها العراق وسوريا وليبيا؛ وتلك هي الصفة المشتركة بين هذه الدول الثلاث وليست الاختلافات الطائفية داخلها.
المنطق الإثني يتهاوى أيضاً أمام التاريخ، فمجتمعات منطقة الهلال الخصيب كانت منذ قرون مختلطة في كثير من حواضرها بمزيج من الطوائف السُنية والشيعية والعلوية والدرزية، إضافة للأديان: اليهودية، المسيحية فضلاً عن أقليات صغرى كالايزيدية.. إضافة لأعراق أخرى (أكراد، تركمان..)؛ ولم تحدث بسببها حروب أهلية إلا نادراً، على خلاف ما شهدته أوربا الحديثة. لعل الحروب الدينية القديمة، ثم العرقية الحديثة التي شهدتها أوربا هي ما يؤثر كثيراً بطريقة تفكير المحللين الأوربيين.
على عكس هذه التحليلات الغربية يرى القوميون العرب أن الدول العربية هشة ليس لأنها تحمل مزيجاً مختلطاً متنافراً في داخلها بل لأنها لم تتحد فيما بينها، فهي أصلاً منسجمة حضارياً ولكن فرَّقها الاستعمار.. أو بعبارة أخرى ليس لأنها أكبر من حجمها الطبيعي كما يدعي الغربيون بل لأنها أصغر من حجمها الطبيعي ومفككة قسراً، فأصبحت ضعيفة ومهددة!
ولأن كلاً من هؤلاء المحللين (القوميين والغربيين) يعتبرون أن الدولة العربية مصطنعة الحدود، لذا يشككون في الشعور الوطني، القوميون لصالح الانتماء القومي (فوق الوطني)، والغربيون لصالح الانتماء الفئوي (تحت الوطني). هل هذا صحيح؟ ألق نظرة على اليوتيوب وسترى مقدار حدة الشعور الوطني في البلدان العربية وسترى تفوقه على الحس القومي والفئوي معاً، باستثناء حين تكون هناك مساجلات طائفية في فترة اضطرابات وما يتخللها من احتقان يتبعه استقطاب فئوي.
ففي وقت الاضطرابات والفوضى وضعف الحكومة المركزية يضعف الحس الوطني وتبرز مشاعر الانتماء الفئوية لأن كثيراً من الناس حينها يلوذون بفئاتهم الاجتماعية من أجل الحماية. هذا شيء طبيعي في كافة دول العالم. يقول إياد علاوي، نائب الرئيس العراقي ورئيس الوزراء السابق: «إذا مرت أي دولة بما مرت به العراق في السنوات الـ 12 الماضية، لكانت تقطعت أوصالها الآن. الشيء الذي أبقى على استمرار البلاد هو إرادة الشعب».
وبدلاً من سؤال كيف تتحد الدول العربية، صرنا نسأل كيف يمكن المحافظة على وحدة دولة عربية تتنازعها الروح الانفصالية؟ ولو بحثنا في التجارب العالمية لوجدناها مختلفة، فالنزعات الانفصالية قد تستند على الهوية (القومية، الدينية، الثقافية)، ولكنها كثيراً ما تستند على مطالب حقوقية من فئة تشعر بالتهميش تتحول مع الإهمال إلى مطالب سياسية وربما عنيفة بالانفصال.
في العالم العربي، ما هو سبب: اضطرابات «الربيع العربي»، سقوط بعض الأنظمة، الحركة الانفصالية في المنطقة الفلانية، أو الحرب الأهلية في البلد العلاني..؟ السبب الواحد كالطائفية مريح ومثير، رغم أننا نعلم أن جذور أية أزمة كبرى يتداخل فيها مزيج من الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي..الخ، أما ظواهرها كالطائفية فهي عبارة عن حلقة أخيرة في سلسلة معقدة ينبغي تفكيكها وتحليلها ومعرفة اتصال الحلقة بها..
ليست العوامل داخلية فقط، بل ثمة الخارجي منها، عندما لا ترغب الأطراف النافذة عالمياً في الحل الجاد. خذ مثلاً، الأسبوع الماضي عندما سئل رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، عن موعد انتهاء الحرب على الإرهاب، قال بكل جرأة أو وقاحة: «إنها حرب طويلة، للأسف. لكنها حرب كانت قائمة منذ آلاف السنين...». وردت عليه صحيفة منت برس نيوز: «باختصار، أمريكا ليس لديها نية لتحقيق النصر. الحرب ستستمر طالما أنّ هناك أموالًا تُجنى من خلال الاستمرار في هذه السياسات.. اعترف مدير الاستخبارات المركزية دون قصد أنّ جنودنا لا يموتون من أجل أمهاتهم.. إنهم يموتون من أجل شركة إكسون، وبوينغ، وشركة هاليبرتون».