كوثر الأربش
الثقافة حسب المفهوم الانثروبولوجي تحمل أوجهَ الارتقاء البشري، وهي حالة من صقل الإدراك وتهذيب للنفس والعقل. المثقف هو الذي يرتقي بفهمه من حالة الغموض واللبس والتناقض إلى وضع أكثر اتزانًا ومقاربة للواقع والاعتدال. ليس هذا وحسب، بل تتجاوز الثقافة البُعد الفكري إلى البُعد السلوكي. بحيث يترفع المثقف عن ممارسات وسلوكيات دُنيا إلى أخرى أكثر رقيًا وسموًا بالمفهوم الحضاري. يمكن لأحدنا قراءة المئات من الكتب لكن إن لم تكن نافذة وبوابة للوعي والاتزان والرقي لن تدلف به إلى رحاب الثقافة. ربما حري بي الآن أن أذكّر أن المصطلح مشتق من تثقيف الرمح أي تقويمه، أو تثقيف القلم وهو بريه. هذا ما تفعله الثقافة في البشر؛ تقوّم عملية التفكير لديهم، تهذب أقوالهم وسلوكياتهم حتى لا يكون المثقف والنمطي أو الجاهل (غير المثقف) سواء. لذا فإن المجتمعات المتحضرة تضع المثقفين موضع قيادة وصناعة رأي ومسؤولية تأثير على المجموع العمومي للناس. الكارثة الحقيقة أن يصاب المثقف بلوثة فكرية، بمجموعة متناقضات، بسلوكيات الشارع، بالتطرف، التعصب، الحقد، النقمة والعدوان! إذا أصيب عقلة بآفة التناقض، وقلبه بآفة الحقد، وسلوكياته وأقواله بآفات التطرف والتحريض والمغالاة وغيرها من سلوكيات الجهلاء. ماذا يتبقى من تهذيب الثقافة؟
كوثر البشراوي وجه إعلامي أطل علينا عبر قنوات متعددة. أطلت كعلمانية مناهضة للحجاب ومنع قيادة المرأة وتعدد الزوجات وغيرها. ثم تحول مسارها إلى الضفة المقابلة تمامًا! والتحول الفكري - بالمناسبة - ليس مأخذا أو مذمة، إنما التحول من مضاد للأديان إلى مؤيد لحزب طائفي متطرف، لن تترك لعلامات التعجب والاستفهام إلا القفز للأذهان دون أدنى تكلف أو استدعاء!
ماذا يعني أن تتحول من مناصر للإنسان إلى مناصر لقاتل الإِنسان؟ إنه تحول جذري خطير، ومنعطف لا يمكن أن يؤدي إلى سلامة فكرية ونفسية البتة! وما ختم سلسلة المتناقضات المريبة التي ظهرت بها البشراوي في عدة مواضع ولقاءات؛ إنها ظهرت في لقائها الأخير على قناة «الإخبارية السورية» التابعة لنظام الأسد وهي تقبل حذاء لجندي سوري تابع لجيش النظام معبرة عن أنها أعلى هدية حصلت عليها في حياتها. وختمت حديثها قائلة: «لا شيء تتمناه في هذه الدنيا سوى سعادة سماحة السيد حسن نصر الله، والأخ بشار الأسد». هل يسعني الآن أن اسأل: هل تقبيل حذاء أو حجر حرية شخصية؟ أن تعلن اصطفافك مع طاغية قاتل لشعبه، أو أن تدعو لقائد حزب متطرف اقتحم حدود جيرانه وساهم في تدمير بلاد وقتل عُزل وأطفال أيضًا حرية شخصية؟ أقول لمن سيجيب بـ نعم. أنت يا سيدي تفهم حرية التعبير بشكل معكوس تمامًا!
لأن تأييد الجريمة جريمة أخرى. بل الصمت عليها كذلك. إن المؤيدين لكوثر بشراوي هم ذاتهم الهازئين بالتحاق المطرب فضل شاكر لداعش! إنه الكيل بمكيالين يا سادة! ونظرة مزدوجة لحالتين متطابقتين. أقول في الحقيقة: بقدر ما تحترم البشرية التحول الفكري الذي يرتقي بالإنسان من الضيق للرحابة، من التناقض للاتزان، من التعصب للاعتدال. بقدر ما تفقد البشرية ومجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص بعض رموزها، تفقدهم منزلقين من علو لحضيض!