د. فوزية البكر
نعت البشرية الأسبوع الماضي أحد أهم أدباء هذا القرن: الألماني غونتر جراس الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2000 عن مجمل أعماله. وعرف العالم غونتر بسبب مواقفه الحاسمة والواضحة من القضايا الإنسانية كالحرية والعدالة خاصة بعد نشره روايته أو على الأصح
(سيرته الذاتية) المسماة (تقشير البصل) والتي حاول فيها تتبع الإرث التاريخي والثقافي الذي حدا بالألمان لمناصرة النازية وحتى هزيمتهم الشنعاء التي منيوا بها في الحرب العالمية الثانية. في هذه الرواية تحدث بكل صدق عن دوره هو نفسه كنازي ضمن ما كان يسمى آنذاك بفرق الحماية (أس أس) والتي أثارت جدلا واسعا في كافة الأوساط وهو في ذلك يقول إن: الأدباء في العادة ومن خلال سيرهم الذاتية التي يكتبونها عن أنفسهم يحاولون تبني دور الوعاظ، هنا حاولت أن أتحدث بصدق عن الدور المخجل الذي لعبته أثناء انتمائي لهذه الفرق البغيضة حتى أتمكن من تطهير نفسي من هذا العبء التاريخي.
هو أيضا تحدث عن الصراع الذي كان يدور في كافة أرجاء ألمانيا ما بين الأمان الذين ينظر اليهم كنازيين وبين اليهود الذين ينظر لهم (كضحايا) وهو ما برر للعالم تحطيم ألمانيا القوية وتجريدها من سلاحها بعد هزيمتها ضد الحلفاء. وهو في هذه الرواية يروي تفاصيل دقيقة عن هذه العلاقات المضطربة بين الجنود الأسرى الألمان وبين اليهود الذين أصبح الغرب وحتى اليوم ينظر اليهم (كضحايا) عليه أن يكفر لهم عن خطاياه أبد الدهر.
وطوال مسيرته الحافلة ظل يكتب وينقب عن الجذور (الشريرة) التي سمحت بظهور فكرة النازية والتي يستخدمها اليهود حتى يومنا هذا كقميص عثمان) بما يسمح للدولة الصهيونية أن (تعذب وتقتل وتحتل) شعبا آخر ويقف الغرب كله مدافعا عن هذا الظلم (بسبب ما عاناه اليهود علي يد النازية). وتعد روايته طبل الصفيح هي من قدمه للعالم بعد حياة أدبيه وشخصية متواضعة فانتشرت عبر العالم وتمت ترجمتها لعدة لغات وتم تحويلها إلى فيلم ثم على أثرها نال جائزة نوبل للآداب عام 2000
لن نعجب إذن إذا عرفنا أن إسرائيل تعتبر غونتر (شخصا غير مرغوب فيه) على أراضيها بسبب مواقفه الشجاعة والصريحة ضد الترسانة النووية التي تمتلكها والتي مكنتها من لعب شرطي المنطقة حتى الآن.
ولم يقف غونتر في مواقفه الشجاعة علي ذلك بل كان صوته مجلجلا في كل محفل يعني بالحريات الإنسانية وحق الناس (العاديين) في العيش بكرامة فدافع عن الثورة الطلابية التي اجتاحت أوروبا في نهاية الستينات ووقف ضد رئيسة الوزراء الحالية ميركل حين لم تتخذ موقفا (مشرفا) من التجسس الأمريكي ضد ألمانيا وضدها شخصيا كما دعا إلى منح حق اللجوء لإدوارد سنودن صاحب ويك ليك المشهور.
ولعل قصيدته المشهورة (ما يجب أن يقال) هي ما جعلته عدوا حقيقا لإسرائيل التي اتهمته (بمعاداة السامية) والتي تحدث فيها عن الترسانة النووية لإسرائيل التي يرى أن وجودها يهدد السلام والأمن العالميين ولنقرأ معا بعض من مقاطع هذه القصيدة:
لماذا أكبح نفسي دون ذكر بلد محددة بالاسم، تمتلك منذ أعوام - وحتى لو بقي طي الكتمان - جهد نووي متزايد، قصي عن السيطرة، لأنه لا أحد يمتلك بعد حق التثبت.
الإنكار العمومي للحقيقة الساطعة ومنها ما كان ينتظمه صمتي، أجده كذبة، تدين... وذنب يجعل العقوبة واقعة، حالما يكسر جدار الصمت:
لكن أبدا سيبقى الحكم بـ»معاداة السامية»
لكن الآن، لأنه ومن وطني أنا، والذي بقيت جرائمه عصية عن المقارنة، يطلب - وتضبر الخطب، مرة بعد مرة على أساس تجاري قح،
وعندما تلوكه شفاه ذكية يسوق كتعويض، غواصات جديدة تسلم لإسرائيل، تخصصت في قذف الرؤوس المدمرة إلى حيث لم يتثبت بعد من ميلاد قنبلة نووية واحدة لا... بل بزعم تنامي المخاوف من بروز أدلة،
أقول ما يجب أن يقال!ّ
لكن لماذا أغلقت فمي حتى الآن؟
ألئن وطني، والذي لم يلطخ بوصمة عار، سيحجم عن إقرار الحقيقة التي قد تلطخ إسرائيل، البلد الذي ارتبطت به، وسأبقى؟
لماذا أتكلم الآن فقط،؟
أأصابني الكبر... ولم تتبقي في المحبرة إلا قطيرات أم لأن إسرائيل المسلحة نوويا خطر يهدد السلم الدولي؟ أم لأنه يجب أن يقال، ما سيصبح فى الغد متأخرا جدا؟ أم لأننا - الشعب ألألماني تحملنا خطايا كافية - نخشى التحول الى شريك فى جرم واقع؟
شراكتنا فى الجرم لن تقبل التكفير بأية وسيلة.
أعترف. أني لن أصمت بعد اليوم، لأني سئمت نفاق الغرب، مع أني قد ساهمت فيه، لعل قلمي يحرر البعض من خرصه إجبارا للمتسببين فى الخطر الداهم على التخلي عن العنف...
وفي نفس الوقت تأكيد على حكومتي البلدين بالسماح للهيئات الدولية في التحكم الدائم والسلس بالجهود النووية الإسرائيلية، وفي المواقع النووية الإيرانية عندها سنحرز كل شيء، يجعل الإسرائيليين والفلسطينيين، وكل البشرية، التي تعمر هذه الأرض التي يسكنها الوهم يعيشون جنبا إلى جنب من غير عداء.
فكيف بعد أن تجرأ وقال (ما لا يقال) أن لا يتهم بالسامية وأن تكرهه الدولة الصهيونية وتمنعه من دخول أراضيها باعتباره شخصا غير مرغوب فيه؟ حقا من يجرأ اليوم أن يقول ما لا يقال ويتكلم ضد دولة صهيون؟ لنا الله بعد رحيلك يا آخر الشرفاء فالقليل اليوم هم من يجرؤون على قول كلمة الحق بصوت مرتفع ويقبلون أن يدافعوا عنها كما فعلت لكن ما يهون علينا فقدك أنك أنت.. أنت وأمثالك من المناضلين الشرفاء عن حق الضعفاء في الحياة.. أنتم من ستبقون في ذاكرة التاريخ كأبطال ونماذج تحتذى ولن يتذكر التاريخ أي من أسماء أو سير المضللين والمستفيدين والسفاحين والمستغلون للسلطة ممن يملؤون عالمنا اليوم.. لماذا؟ لأنهم سيكونون في مزبلة التاريخ غير مأسوف عليهم.. فلتعش الكلمة حرة كما كانت وكما ستبقى.