د. فوزية البكر
لو أن أحدا من الباحثين المتخصصين قدَّم إلينا بعضا من توقعاته لما ينطوي عليه الإسلام السياسي من عنف وتطرف كما نراه اليوم لما صدقناه، ووضعنا ما يقوله ضمن الكتابات المسيئة للإسلام كما نعرفه ونعيشه: دين جاء لينقذ الناس من جاهليتهم وتطرفهم وليعلمهم أن الله قد استخلفهم على أرضه لبنائها ونشر العدل والمساواة بين من خلقهم عليها.
ما نراه اليوم من عنف وقتل وتدمير واسترخاص للنفس بين الكثير من الشباب المسلم في شتي بقاع المعمورة يفوق كل التصورات، وللأسف فقد صدقت الكتابات التي كانت تشير إلى أن المنطقة سترى أسوأ من القاعدة ونحن الذين لم نكن نتخيل أن هناك قوى شريرة أكثر عنفا وتطرفا من القاعدة، لكن ها هي داعش وحركة شباب الإسلام في الصومال وبوكو حرام والنصرة وغيرها وغيرها من الجماعات الإسلامية المتشددة تنتشر بين ظهرانينا لتهدد الأمن والوجود الإِنساني.
لا استطيع مثلا أن أجد أي تبرير لعنف جماعة الشباب الإسلامي في الصومال الذين اقتحموا جامعة كريس الكينية والتي تبعد عن الحدود الصومالية حوالي مائتي كيلو متر، واقتادوا الطلاب العزل الذين لم يملكوا سلاحا ولم يعتدوا أو يخربوا وبدؤوا طرح أسئلة عن القرآن فمن خاف أو خانته الذاكرة (ومن سيكون ثابتا في ذلك الموقف؟؟) أو كان مسيحيا قُتل على الفور (يا الله هل وصل رخص النفس البشرية لدى هؤلاء المتأسلمين إلى قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق: فقط للفشل في الإجابة عن سؤال؟). في ذلك تم قتل 147 طالبا دفعة واحدة وتم سحق قلوب أمهات وآباء أرسلوا أبناءهم لتلقي العلم فانتهوا بموت (عبثي) مخيف، فكيف لا نتوقع أن تزداد الكراهية وسوء الفهم لديننا الحنيف أو ما يسمى الإسلامفوبيا التي تنتشر اليوم انتشار النار في الهشيم بعد كل هذه الفضائح الإِنسانية والأخلاقية التي ارتكبها هؤلاء المتطرفون، حتى إنه وبعد سقوط طائرة اللوفتهانزا الألمانية الأخيرة حينما أقفل مساعد الطيار كابينة الطائرة بعد خروج قائد الطائرة للحمام وهوى بها فوق جبال الألب، ومن أوائل التفسيرات التي بدأت محطات العالم في تلقيها فحص قائمة الركاب حتى لا يكون بينها مسلم يمكن أن يكون سببا في الحادثة.
هناك الكثير من الافتراضات والنظريات لتفسير العنف تجاه الاخر الذي يحمله الشباب المسلم اليوم .. فقد يقول قائل انها مؤامرة صهيونية للنيل من المسلمين (من يرى كيف يدمر هؤلاء المتطرفون ديننا ويعملون على تشويهه سيميل إلى تصديق هذا الافتراض، فلا عاقل يرغب في تشويه ديانته بالطريقة التي نرى شباب الإسلام يقومون بها ؟!). ويرى آخرون أن الأوضاع المعيشية المهينة التي يعيش في ظلها معظم شباب العالم العربي (ربما عدا الخليج)، ربما تكون مسؤولة عن حدة مشاعر الغضب تجاه الغرب (القاهر) خاصة ان هذا الغرب كان قد استعمر وامتص مقدرات هذه الدول قبل فترة بسيطة في عمر الشعوب، فيما يرى آخرون أن الأنظمة الشمولية في البلدان الإسلامية التي لا تترك مجالا لمشاركات ديمقراطية شعبية هي من يدفع إلى التطرف.
كل هذه التفسيرات وغيرها قد تكون متداخلة لتشرح الصورة العامة أو ما يسمى التفسير على مستوى (الماكرو)، الذي يركز على رؤية العوامل والمسببات الكبرى العامة التي تساهم في خلق ظاهرة ما، لكن تبقى الكثير من العوامل الداخلية (الصغرى أو ما يسمى (مستوى المايكرو) لتحلل الكثير من الرعب الذي يهدد عالم اليوم، بل إني أميل إلى تبني فكرة تفسير يجمع ما بين الظروف المحلية لكل بلد إسلامي وبين الظروف الشخصية لكل متطرف، حتى نستطيع أن نفهم كيف تمكن هذا الإيذاء من تجاوز حدودا وبلدانا وأغرقنا هؤلاء المتطرفون (وبالضرورة العالم الإسلامي كله) في ممارسات لا إِنسانية مرعبة تذكر بالرجل البدائي قبل بزوغ الحضارات الإِنسانية.
لا تتوقع من طفل يعيش في مخيمات فلسطينية مثل اليرموك ودون بنية تحتية من الخدمات وفي فقر مدقع أن يحمل فكرة مشرقة عن الحياة وأن لا يكون ضحية سهلة لكل فكر متطرف، كما لا تتوقع من شاب لم يكمل تعليمه وخضع لتعليم تقليدي وعنف مدرس قاس أن يكون متصالحا مع نفسه والآخر.
العديد من المناهج الدراسية سواء في محتواها أو أوزانها (أي الوقت المعطى لها في الجدول الدراسي) تعاني الكثير من المشكلات المنهجية والمعرفية، وتؤكد على رفض الحياة والآخر وهي بالكاد تعلم الطالب شيئا عن عالمه الحقيقي حوله فما بالك بما هو خارج أسوار بلده، الكثير من معلمينا يمضون وقت الحصة في غسيل دماغ منظم ولا نملك أن نبعدهم عن هذه المهنة المقدسة، التعلم يركز على القشور لذا تتضخم درجات الطلاب دون أن يقدم معرفة حقيقية شاملة لما يتعلمه. لم تدرب لا المدرسة ولا المجتمع بأفراده أو مؤسساته على التعامل والعيش بمفهوم السلام، وتعلم التعامل مع الاختلاف حتى لو كان حادا دون إراقة الدماء (الفعلية أو النفسية).
مهارات القدرة على حل النزعات ومفهوم التعليم للسلام والقبول بأدوارنا كأفراد ضمن منظومة كونية شاملة تعطينا ونعطيها لا تجد تأكيداً واضحا ضمن النشاطات التعليمية أو الثقافية أو الدينية. أهداف تعليمنا في المملكة مثلاً أكل الدهر عليها وشرب ولا يجرؤ أحد على مناقشتها منذ وضعت عندما أنشئ نظام التعليم في المملكة قبل نصف قرن!
العنف دائرة تعسة تتشكل لدى الفرد عبر خبرات فردية وجماعية غير إِنسانية والكثير من المسلمين يعيشون في ظل ظروف غير إِنسانية سواء من هم تحت الاحتلال الإسرائيلي أو بفعل الفساد السياسي في بلدانهم أو لجهل المحيط العام والأسري المحيط بهم، وهو ما يوقعهم وهم صغار ضحايا للتطرف والعنف. لذا فإنَّ إيماننا بحق الفرد أولا في أن يعيش بإِنسانية وكرامة وأمن ستجعله ينقل هذا المفهوم إلى عشه الصَّغير لاحقا ثم إلى منظومته المهنية والمجتمعية، ليخرج بنا من طوق العنف الذي يكاد أن يلتف على أعناقنا!