عبدالعزيز السماري
تابعت مقابلة للإعلامي المميز عبدالله المديفر مع الشيخ أحمد القطان في برنامجه الناجح لقاء الجمعة، الذي كان يمثل أحد أهم نجوم مرحلة الخطابة الدعوية في عصر الصحوة، وكان له صولات وجولات على المنابر، ويتميز بجاذبية وحسن إلقاء منقطع النظير. وحاول مقدم اللقاء أن يأخذ من الشيخ تفسيراً للتغيير الذي حدث في سيرته الدعوية، فقد ظهر مسالماً ومخالفاً لسيرته الأولى، ولم ينجح في الخروج بإجابة شفافة، وربما لم يرد الشيخ أن يقدم تفسيراً للتحول الكبير في سيرته الدعوية..
لعل ذلك من الجوانب المبهمة في مرحلة ما بعد مرحلة الصحوة، وسببها رفض نجومها ودعاتها تناول ما حدث من متغيرات كبيرة في خطابهم الدعوي، وقد اختاروا الصمت بالرغم من التغيير الكامل في أطروحاتهم السياسية والدعوية. ولعل ذلك من أهم أسباب خروج الصحوة عن خطها الأول إلى مسارات متعددة، منها التصالح مع المجتمعات، لكن أخطرها على الإطلاق كان تيار الجهاد بالعنف أو ظاهرة الإرهاب.
كان من أهم سمات تلك المرحلة «البراءة» من العائلة إن كانت على ضلال، وقد حدثت مواجهات داخل المنازل، انتهى بعضها بتكسير الأجهزة كالتلفاز والفيديو، واختار بعضهم الهجرة إلى الخارج، أو الانعزال عن العائلة بسبب ضلالها في الاستماع للموسيقى وغيرها، ووصلت دعوات «البراءة» من الأقارب إلى المرحلة الدموية، عندما دعا تنظيم «داعش» الإرهابي المتعاطفين معه في السعودية إلى «البراءة من أهلهم وذويهم»، وذلك في إصدار مرئي للتنظيم ظهر مؤخراً، وتضمن تحريضاً صريحاً على قتل الأقارب والأهل بدعوى «المعروف والنصرة، وتطبيقاً لشريعة الولاء والبراء».
أخذ منهج البراءة زخماً دعوياً في مرحلة الصحوة، تمتد جذوره إلى حركات التشدد الديني في الإسلام. وحسب أدبيات التطرف الديني «أصل البراءة المقاطعة بالقلب واللسان والبدن، وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر»، «وأن تكون العداوة والبغضاء باديتين، أي: ظاهرتين بيّنتين»، والكافر هو من تراه الجامعة المتطرفة كافراً وخارجاً عن الملة. وتقول بالبراءة أيضاً الجماعات الشيعية المتطرفة. وهو في نهاية الأمر دعوة لفصل المجتمعات والأوطان إلى تيار الموالين المؤمنين وتيار الأعداء الكفار، أو إلى مجتمع الإسلام ومجتمع الجاهلية، ثم مقاطعتهم وإعلان البراءة من الكفار والجاهلين، تمهيداً إلى إعلان الحرب عليهم أو قتلهم كما يحدث الآن في العراق والشام وليبيا وتونس واليمن.
الشاهد في بطلان دعوات البراءة من المخالفين، ولو كانوا من العائلة، وأنها مجرد شعارات سياسية، هو ما رواه الشيخ أحمد القطان عن قصة والده الذي خرج من الملة حسب روايته في المقابلة، بعد أن أصيب بمرض أقعده، ورفض «الملا» أي المطوع أن «يرقيه» إذا لم يدفع له مقدماً خمسة روبيات، وظل مقعداً إلى أن علم بوجود طبيب نصراني في الكويت، ثم زحف إلى عيادته، وعالجه النصراني بدون مقابل، ثم علم أن الدكتور الأمريكي وضع في جيبه خمسة روبيات..
استمر الطبيب في زيارة والد الشيخ - رحمه الله - في منزله إلى أن تعافى تماماً، وكان موقف والد الشيخ بعد ذلك سلبياً من الدين الإسلامي، وقاده إلى الخروج من الملة، وظل على موقفه إلى فترة أيامه الأخيرة في الحياة الدنيا. وقد أظهر الشيخ أحمد تسامحاً جميلاً، وقدم مثالاً رائعاً للأجيال القادمة، عندما أحسن معاملته والده في مرضه بالرفق والكلمة الطيبة، بالرغم من كفره، وأدى ذلك التعامل الرائع إلى نطقه بالشهادة والصلاة في أيامه الأخيرة. ويذكر الشيخ أن والده قال له قبل أن يتوفاه الله «إن المعاملة الحسنة التي شاهدتها منك هي الدين الصحيح». رحم الله والد الشيخ، وأسكنه جنات النعيم.
هذا دليل دامغ أن الإسلام النقي لا يخالف الفطرة الإنسانية، فالإنسان لا يمكن أن يرمي والده بالردة، وإن كفر فعلاً، أو أن يحكم عليه بالقتل، وأن يظهر له العداوة والكراهية، وأن الإنسان أيضاً يستحق أن يعيش في امتحانه الدنيوي إلى آخر يوم في حياته، وأن يعود بعد كفره، وأن الخطابات الحماسية وأحكام التكفير والردة التي كانت تطلقها ظواهر التطرف السني والشيعي فيما يطلق عليه بالبراءة تسقط عند أول امتحان إنساني أو عائلي، وأنها مجرد شعارات في قضايا سياسية، وأن التسامح واحتمال الآخر المخالف متطلبات لا يمكن تجاوزها في هذا العصر.
ودليل آخر أن دعوة داعش الإجرامية لقتل الأقرباء غير الموالين لهم تستمد تعصبها وتطرفها المخالف للدين من الظواهر الدينية المتطرفة، منها الصحوة وما قبلها، منذ عصر الخوارج؛ لأن تطبيقها في الواقع لا يمكن أن يتحقق لأنه مخالف للفطرة الإنسانية، ويؤدي إلى هلاك البشر والأوطان، وأن الغائب الأهم في الحروب الدينية التي تقوم على البراءة من الكفار المخالفين للفكر الجهادي أو الصحوي هو الدين الصحيح. ولو قدر لي أن أختار سبباً واحداً لمرحلة التيه والضياع التي نعيشها لاخترت رفض نجوم الصحوة الإفصاح عن قناعاهم الحالية وعن سبب تحولاتهم من دعاة إلى مواطنين مسالمين ومتسامحين، بعد أن أشعلوها صراعاً في المجتمعات العربية والإسلامية. والله على ما أقول شهيد.