د. محمد عبدالله العوين
وماذا بقي في هذا الزمان من العجائب؟! ماذا بقي في جعبة الفرس مما لم يرتكبوا جريرته في حق العرب السنّة من الآثام والموبقات؟! البيوت وأحرقوها، سكان المدن والقرى وشردوهم، السجون ومملوءة بهم، تعذيبهم فيها صار أمراً معتاداً، والقبض والقتل على الهوية أو الاسم صار أمراً مألوفاً، التهميش والإفقار أصبح مخصوصاً به طائفة معينة مطاردة في رزقها ومسكنها وأمنها؛ فأين يذهبون؟! إن تمسكوا بقراهم فهم بين أمرين؛ إما الموت على يد داعش أو الموت على يد الحشد الشعبي، وإن فروا - وهم بمئات الآلاف - باحثين عن النجاة تاركين وراءهم الخشب والنشب وما يملكون من حطام الدنيا قاصدين بغداد العروبة؛ لعلهم يجدون فيها الأمن والسكينة والمأوى بعد أن ضاقت بهم السبل أغلقت بغداد الرشيد أمام وجوههم أبوابها، وقالت لهم: أنتم غرباء لا نعرفكم ولا تعرفوننا، فلا بد لكم لتتشرفوا بدخول بغداد وتمنحكم الأمن الذي تفتقدونه ولقمة العيش التي حرمتم منها أيها الأعراب الأقحاح؛ عرب الأنبار، وعرب الرمادي، وعرب الموصل، وعرب صلاح الدين؛ لا بد لكم من «كفيل» يعرفنا بكم ويؤكد لنا هويتكم، ويضمنكم من أن تخلوا بأمن عاصمة الفرس؛ فأنتم الآن لستم من أهلها، ولا هي منكم!
الله، الله، أيهذا الزمان الغريب العجيب!
كم تنكرت وتبدلت وانقلبت بسرعة البرق إلى زمن آخر، فلم يعد العراق العراق، ولا الشام الشام، ولم تعد بغداد بغداد، ولا دمشق دمشق!
أنكرت بغداد أهلها، وتنكرت لهم، لم تعد بغداد للجاحظ ولا لأبي حيان ولا لأبي تمام، ولا للبحتري، ولا للكسائي، ولا لأبي حنيفة النعمان، ولا لأحمد بن حنبل، لم تعد لهارون، ولا للمأمون، ولا للمعتصم، ولا للمتوكل، لم تعد منارة العلم ومحفل الترجمة وجامعة اللغة والأدب ومصدر الرواية والنقل والاجتهاد؛ لقد تنكرت بغداد فغدت أبا نواس وابن المقفع والبرامكة وابن العلقمي، محا الخط الفارسيُ خطَ النسخ والرقعة والثلث، وبُدّل اللسانُ العربي الفصيح لساناً أعجمياً لا يكاد يبين!
أما البصرة والكوفة وسامراء والموصل، فلم تعد كما كنا نقرأ عنها ونألفها؛ مناراتِ إشعاع وموئلَ علم ومعرفة، ومصدرَ تاريخ ورواية وبطولات؛ لقد حل الأعاجم محل العرب؛ أنكرت البصرة ساكنيها وتمردت على تاريخها العربي القديم؛ فحل الريال الفارسي محل الدينار العراقي، وملأ الفضاءَ هجينٌ من العربية والفارسية أشبه ما يكون بالرطانة الأعجمية؛ فلا يعرف الزائر أعربٌ هم أولاء أم عجم، فالمنادي ينادي بالفارسية، والمغني يرفع عقيرته بالغناء بالفارسية، والبيع والشراء بالريال الفارسي؛ فماذا بقي بعد يا عراق؟!
هؤلاء هم الفارون الهاربون بجلودهم بالآلاف من كل حدب وصوب متبتلين متوسلين على بوابات بغداد؛ رجالاً ونساءً وأطفالاً، لا يملكون من الدنيا إلا أرواحهم التي لم تقبض بعد، يطمحون أن يستظلوا ببقايا من ظل الرشيد في عاصمته؛ فلعل ذلك التاريخ العربي المجيد يستيقظ فيشفع لهم بأن تظلهم هذه المدينة المتأبية في ظلها يوم أن حرموا في رحلة هروبهم الطويلة من أن يجدوا لهم مأوى أو نصيراً!
ولكن بغداد التي أصبحت عاصمة الإمبراطورية الفارسية لا تلقي لهم أذناً، ولا تنظر إليهم بعين عطف؛ فهم أعراب أغراب لا بد لهم من «كفيل» يعرف بهم ويضمن عدم خيانتهم الولاء للشاهنشاه الحكم بأمر الله القابع في طهران!
ماذا بقي بعد أيهذا الزمن أن تتحفنا به من العجائب؟!
سقطت بغداد 656هـ في يد المغول بخيانة فارسية، ثم سقطت 2003م في يد الفرس، ثم لحقتها بغدادات أخرى؛ دمشق، وبيروت، وصنعاء!
رحمتك يا رب!