د. عبدالحق عزوزي
نشرت صحيفة «الشروق» التونسية تصوراً لمراحل الهجوم الذي نفذه متطرفون على متحف باردو التونسي لحظة بلحظة، وهو الهجوم الذي بدأ في منتصف ظهر الأربعاء الماضي، واستمر حتى السادسة والنصف مساء،
بحسب الصحيفة، في واحدة من أكثر الهجمات دموية في تونس التي راح ضحيتها أكثر من عشرين شخصا. الاعتداء بدأ في 12:15 دقيقة، بحسب الصحيفة، حيث وقع تبادل لإطلاق النار، وتم إبلاغ الأمر إلى غرفة العمليات التابعة للأمن العام، لتصل في تمام 12:18 عناصر أمنية حاملين أسلحتهم الفردية، ويلحقهم بعدها بـ14 دقيقة الوحدات المختصة، وتبعتها 6 سيارات حماية مدنية. وفي الساعة 12:36 مشطت وحدات إقليم تونس المنطقة، وأوقفت إرهابيين اثنين معهما دراجتان ناريتان. وفي 12:40 تم تهريب سفيرة الصين التي كانت موجودة داخل المتحف. ومن ثم طُوّق مبنى مجلس الشعب الساعة 12:45، وتم تأمين كل مستشفيات العاصمة، لوجود تهديدات بقتل الجرحى من السياح. وفي تمام الساعة 1:10 ظهراً تم القبض على 3 عناصر إرهابية، ثم اعُتقل 3 آخرون في محيط مجلس المستشارين الساعة 1:38، وبعدها بدقائق انتحل إرهابي صفة صحافي وحاول قتل عناصر أمنية. الصحيفة التونسية وثقت مقتل عضو وحدات مكافحة الإرهاب أيمن مرجان في الثالثة إلا خمس دقائق، ليتم بعد ذلك بنحو 20 دقيقة نقل 50 سائحا إلى مقر إقليم تونس وإسعاف عدد منهم. وجرى اعتقال إرهابي آخر نحو 6:30 مساء بالقرب من المتحف، وكان المسلح يصور دماء القتلى ويرسلها إلى موقع إحدى الكتائب الإرهابية. نعم إنه الإرهاب الأعمى والدامي الذي يأتي على الأخضر واليابس وله نفس التداعيات على الدول مهما تعددت طرقه ووسائله...
وقد سبق وأن حذرت مع آخرين من خطر انعدام الأمن في ليبيا والصمت الدولي وسبق وأن كتبت أن تحول الجنوب الليبي إلى وكر للإرهابيين وقاعدة خلفية لهم سيجعل المنطقة كلها في خطر.. وحسب التقارير الاستخباراتية والمعلوماتية التي تناقلتها الأوساط المطلعة فإن هناك نقاطاً ترابط بين داعش ومجموعات كانت مرتبطة حتى الآن بالقاعدة في منطقة الساحل والصحراء، وخصوصا في درنة وليبيا حيث يحاول داعش الإمساك بزمام الأمور، وهي المنطقة التي يوجد فيها بلمختار، أحد أبرز قياديي القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وأيضا إياد أغ غالي، زعيم جماعة أنصار الدين... والمشكلة الكبرى أن هاته الجماعات في تطور مستمر ولها علاقة بما يقع في ليبيا التي أصبحت دولة ضعيفة جدا، حيث هناك غموض سياسي خطير ويتنازع الشرعية السياسية في البلدة برلمانان وحكومتان في بلاد تسبح في غيابات ما يشبه الحرب الأهلية؛ كما أن المجموعة الدولية لا تكترث كثيرا لما يمكن أن يتمخض عليه هذا التراكم الإرهابي في هاته المنطقة، تماما كما لم تكترث في البداية إلى تمزيق النسيج الاحتماعي والوطني اللاحم في العراق بعد سقوط صدام حيث تجيشت الغرائز العصبوية (الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية) وتشكلت مؤسسات الدولة بناء على نظام الاحتصاص (المحاصصة) الطائفي والعرقي... ومن جوف البنية الطائفية والمذهبية وغياب القشرة الحامية للدولة، نمت الفيروسات الجهادية التكفيرية كداعش وغيرها وانتقل نطاقها بسرعة البرق، سخر للقضاء عليها أزيد من أربعين دولة في تحالف دولي لم يسبق له مثيل حتى في الحربين العالميتين، والأدهى من ذلك أن هذا التحالف لم يستطع لحد الساعة القضاء عليها وهي في زيادة مستمرة...
ما وقع مؤخرا في تونس من تصفية إرهابية لسياح أبرياء هو نتيجة لهذا الصمت الدولي الطويل وعدم الاكتراث غير المفهوم، ودخول مختلف التيارات الليبية في مستنقع الصراعات اللامتناهية فالتاريخ يعيد نفسه دون أي مكترث كما وقع ويقع في العراق. فبدأ يخرج من رحم الجنوب الليبي ومن ليبيا كلها ما هو أهول وأخطر. وأتعجب كما تعجبت مع آخرين لماذا لا تستفيد القوى العالمية من تجارب مناطق مماثلة وبيئات متشابهة مولدة لنفس الإرهاب، لتستبق الأحداث وتتدخل قبل فوات الأوان.
الرئيس الليبي المقتول معمر القذافي ترك بلدة مبتورة بدون مؤسسات وبدون مجتمع سياسي قادر لكي يتجنب النزيف في علاقة المجتمع به، وقابل لكي يشتبك اشتباكا نظريا تاريخيا ناجحا مع معضلات الدولة والمجتمع ليساهم بها في ترشيد ممارسة عملية التغيير والتقدم... وهذا خلافا لدولة تونس حيث إن الفاعلين المجتمعيين والسياسيين لم يهدروا دم الدولة الحديثة بل استبطنوا فكرتها ووطنوها في نسيجهم الثقافي والنفسي؛ فطبيعة الدولة والإرث المؤسساتي والمجتمعي والوعي الثقافي وغيرها من العوامل المتواجدة في تونس والمفقودة للأسف في ليبيا، مكنت من قبول مبدأ الاختلاف وإقراره رويدا رويدا في عقد سياسي يصادق على حق الرأي والانتماء، وعلى التعددية السياسية في مجتمع عقد العزم على أن يكون...
خلال اجتماعها في 19 كانون الأول (ديسمبر) في نواكشوط، دعت خمس دول في منطقة الساحل (تشاد، مالي، النيجر، موريتانيا، بوركينا فاسو) إلى تدخل دولي فوري في ليبيا... والدولة الوحيدة التي بدأت تتحرك وإن على استحياء هي فرنسا مخافة أن يصل خطر هذا الإرهاب إلى حدودها...
فرنسا تحاول اليوم كما فعلت في عهد الثنائيين نيكولا ساركوزي-ألان جوبي، تسريع التحسيس الدولي والتأثير على مجريات الأحداث المقبلة؛ كما تحول إنهاء بناء القاعدة العسكرية «ماداما» في الربيع المقبل، وهي تقع على بعد 100 كلم جنوب الحدود الليبية-النيجيرية، كانت تشغلها فرنسا إبان الاستعمار لمراقبة المنافسين الاستعماريين في تلك الفترة: بريطانيا وإيطاليا. كما أن هاته القاعدة تشكل جزءاً من عملية «بركان» الفرنسية التي صممت لإعادة انتشار القوات الفرنسية الموجودة في بلدان الساحل وفي الشريط الممتد من موريتانيا وحتى دارفور... وللقوات الفرنسية ثلاثة آلاف جندي ينتشرون في قواعد في تشاد (مقر القيادة) والنيجر ومالي وبوركينا فاسو (القوات الخاصة) مدعومة بمائتي مصفحة والعشرات من المروحيات والطائرات القتالية والاستطلاعية دون نسيان القوات الفرنسية المرابطة في السنغال وساحل العاج والغابون.... قضى وزير الدفاع الفرنسي عطلة رأس السنة في القواعد العسكرية الفرنسية المتواجدة في المنطقة لإبراز مدى اهتمام فرنسا وقلقها من الوضع في جنوب ليبيا ولإرسال إشارة سياسية مفادها بأن باريس جاهزة لتحمل المسؤولية كما وقع في مالي سنة 2013 وإفريقيا الوسطى في 2014... ولكن الوضع في ليبيا مختلف ومتشعب وخطير، فلا يكفي الحديث عن جنوب ليبيا بمعزل عن الأوضاع السياسية في ليبيا، ولا يمكن الحديث عن تنامي الإرهابيين دون الحديث عن تثبيت السلم الاجتماعي والسياسي في كل ليبيا، فالأزمات لا تحل بمعالجة نتائجها، وإلا ولدت أخرى أهول وأخطر إن بقيت الأسباب التكوينية والبنيوية دون علاج ونتمنى أن تسفر لقاءات الصخيرات المغربية على نتائج فيها مصلحة الأشقاء الليبيين...
قتل السياح الأبرياء يعني مما يعنيه إيقاف عجلة الحياة الاقتصادية والسياحية في تونس... بمعنى أن الإرهابيين يسعون لتقويض دعائم الدولة السياسية الحديثة التي يبنيها الإخوة التونسيون. وأهم ركيزة في الانتقال الديمقراطي هو تقوية الاقتصاد الوطني وخلق الثقة عند المستثمرين الأجانب، وخلق الثقة بين الحاكم والمحكوم لتقوية القشرة الهشة الحامية للدولة والمجتمع... على تونس أن لا تستسلم، وعلى دول العالم مساعدتها للبقاء قوية وصلبة، كما يجب تدعيم المغرب العربي كوحدة جغرافية واقتصادية قوية كما ينادي بذلك المغرب حفاظا على الأجيال وعلى قواعد العيش في القرن الواحد والعشرين.