د. عبدالحق عزوزي
ما زلنا في صدد عرض البحث القيم الذي تقدم به العلامة المغربي محمد الكتاني في أكاديمية المملكة المغربية في إطار ملتقى علمي متميز عن الثقافة بين الخصوصية والكونية. فهو يرى أنه في ضوء التمييز بين المكوّن العقلاني وبين المكوّن الوِجداني، الديني أو الوطني
يتجلَّى الاختلاف بين الثقافات. وهو اختلاف لا يعني بالضرورة أيّ أفضلية أو تَراتُب. وإنّما يعني الخصوصية والأصالة بالنسبة لكلِّ ثقافة وطنية أو قومية. ولذلك لم يقل أحد من علماء الاجتماع بالتراتب أو بالتفاضل بين اللغات، باعتبارها نظاماً تتكافأ فيه الألسن واللغات، كما لا يوجد تفاوت بين الأذواق والفنون، باعتبارها أشكالاً تعبيرية ذاتية، لا يسدّ الدخيل منها مَسدّ الأصيل.
في ضوء هذا التقابل والاختلاف ندرك عمق المواجهة بين الثقافتين، ثقافة تراثية وثقافة حداثية. حيث تطوّر الصدام بينهما في عصرنا إلى صراع متعدّد المستويات، من سياسيّ ودينيّ واجتماعيّ وأدبيّ. وبذلك يتّضح أنَّ كلَّ ثقافة وطنية، سواء بالنسبة للمغرب أو للبلدان الإسلامية الأخرى تمرّ اليوم بأزمة عميقة، هي أزمة التحوُّل من تاريخ وطني إلى تاريخ عالميّ. وهو ما نعبِّر عنه اختزالاً بالصراع بين التراث والمعاصرة، أو بين السلفية والتحديث. هذا الصراع الذي لم يتوقف على مدى العقود الأخيرة، بين النخب الثقافية الممثلة لهذه الاتّجاهات، في كلّ البلدان التي انفتحت على الثقافة الغربية. وفي هذا السياق تطرح ظاهرة المثاقفة، وما قد تقع فيه من استلاب وذوبان أو ما تتوخّاه من انتقاء وتوفيق.
وإذا سلّمنا بالاختلاف، كما يكتب الأستاذ محمد الكتاني، بين ما هو خصوصي، وبين ما هو كونيّ في الثقافة، فلا مناص من ربطه بمسار التاريخ. إذ من المعلوم أنَّ ثقافة أيّ أمّة إنّما تتكوّن خلال مسار حركتها التاريخية، وذلك حينما تتمخّض هذه الحركة عن ترسيخ مجموعة من النُّظم والمؤسّسات، التي تقوم عليها الحياة السياسية والاجتماعية، وعن عقيدة تُبلوِر منظورها إلى الكون، وعلاقة الإنسان فيه مع النواميس الغيبية، وعن تقاليد متوارثة تُعبّر عن منظومة من الثوابت المتحكّمة في القيم والقواعد الأخلاقية. ومن خلال ارتباط (الأمّة) بالأرض ومناخها، واحتكاكها بشعوب أخرى على مستوى الجوار الجغرافي، وما يفرضه من انفتاح على الآخر، وتبادل للمصالح والمنافع، وتأثر وتأثير في الإنتاج الاقتصادي والتفاعل السياسي. ومن التقاء الثقافة الوطنية بثقافة الآخر يَنشأ الوعي بالذات، وبالتميُّز والاختلاف عن الغير، وتَتَبلور مفاهيم الهوية والأصالة في صور رمزية متعدّدة. وبذلك تصبح الثقافة هي المفهوم الجامع لما تمخّضت عنه الحركة التاريخية من ثوابت، في اللغة والفنون التعبيرية والمعتقدات والسلوك الحضاري.
وقد تمخّض تاريخ المغرب عن ثقافة كانت ثمرة تفاعل متعدّد الأطراف والأجناس والمكوِّنات، بحيث تعكس هذه الثقافة ذات الروافد المتعدّدة التي فرضها الموقع الجغرافي، والعلاقات الجيو سياسية للمغرب، وذلك بانفتاحه على المشرق، وعلى العمق الإفريقي، وعلى أوروبا. ومن ثَمَّ كان المغرب بحكم هذا الموقع المتميّز بُوتَقَةً لانصهار كل العناصر الوافدة عليه، والتي سرعان ما تمثّلت روح أرضه وسمائه، وتجاوبت مع مزاج ساكنته، في النزوع إلى الاستمزاج والانتقاء، والواقعية والاعتدال.
ومنذ استقلال المغرب في منتصف القرن الماضي أخذ يعيش التجربة التاريخية التي وُضعت على مِحكِّها ثقافته الوطنية، كما ورِثها عن الأجيال السابقة. وذلك حينما أخذ ينفتح على الثقافة العصرية، ويمتحن قُدُراته على الانفتاح والتفاعل معها من ناحية، وعلى الحفاظ على الهوية والأصالة من ناحية أخرى.
لقد أخذ المغرب ينفتح على حضارة أوروبا منذ القرن التاسع عشر، عندما قويت الضغوط الأوروبية عليه، والتي جعلت دولة المخزن التقليدية تخضع للشروط المفروضة على تجارته وإدارته، بل وعلى سيادته. والتي أفضت في نهاية المطاف إلى وقوعه تحت نِير الاستعمار. فاستشعرت النُّخبة المغربية المثقفة منذ ذلك الحين مدى ضعف المغرب، وعجزه عن المواجهة للقوى الاستعمارية المتربّصة به، بقدر ما استشعرت عجزها، ليس فقط عن مقاومة جيوش الاحتلال بأسلحته الحديثة، وإنّما عجزَها أيضاً عن إيقاف الانبهار بمظاهر حضارته، وعن مقاومة مظاهر التحديث والعصرنة. ولاسيّما ما كانت تنطوي عليه هذه الحضارة من علوم عصرية، وأنظمة إدارية جديدة، وتكنولوجيا وإنتاج صناعيّ متطوّر. وأخذ فكر الشباب المغربيّ منذ بداية القرن العشرين يقتنع بأنّه بات لِزاماً على المغرب أن يتحرّر إلى حدّ ما من ميراثه الحضاري والثقافي القديم أو الموروث، ليُساير التطوّر للحضارة العالمية، بالوتيرة المتسارعة، التي كان يفرضها الانفتاح على هذه الحضارة.
وإذا كانت النخب الوطنية يومئذ قد أجمعت على ضرورة المقاومة للاحتلال الأجنبيّ وعلى تعبئة القوات الشعبية لاسترجاع الحرية والاستقلال، كما أدركت ضرورة مواجهة أسلحة المستعمر بمثلها، فإنَّ هذا الشرط الاستراتيجيّ للمقاومة الناجعة لم يكن متاحاً بالنسبة للمقاومة على المستوى الثقافي. فالثقافة المغربية التي كانت تأخذ بها النخبة العالمة يومئذ كانت ثقافة دينية منغلقة على ذاتها. وكانت بطبيعتها تتعارض في العديد من قيمها مع قيم الحضارة الغربية وثقافتها الوافدة على المغرب. ومن الصدام بين الثقافتين انبثق الشعور بقيم الأصالة والهوية، في مواجهة الحداثة والمعاصرة. ولذلك اعتبرت القيادة الفكرية والسياسية، وهي تخوض معارك استرجاع الحرية والاستقلال أنَّ الثقافة الوطنية تَظلُّ برغم كلّ شيء المَلاذ الحقيقي للهوية المغربية، لتحصينها من التفكّك والانحلال، فأخذت اللغة العربية والعقيدة الإسلامية حينئذ رمزيتهما القصوى في هذه المواجهة. إذ لم يكن هناك خيار آخر لجعل الشعب المغربي يخوض معركة التحرير إلا انطلاقاً من إيمانه بهويته.
ومنذ استقلال المغرب إلى اليوم تبيَّن للجميع أنَّه لا يمكن إعادة بناء مجتمع مغربيّ عصريّ متقدِّم إلا وفق منهج يعتمد قوانين العلوم الطبيعية والإنسانية والاقتصادية. ولاسيّما آلياتها المؤسّساتية. وممارسة الأنظمة الديمقراطية، لبناء الدولة الوطنية، والالتحاق بالحضارة العالمية. أي الأخذ بالتجارب العقلية والمعطيات العلمية التي راكمتها الثقافة الغربية، وفرضت نفسها على أرض الواقع. وهذا هو البعد العقلانيّ في الثقافة الغربية، ومن خلال هذا التوجّه لا يرى الأستاذ محمد الكتاني أيّ مبرّر لطرح إشكالية التعارض بين الحفاظ على الخصوصية الثقافية الوطنية، وبين ما يمكن تسميته بالثقافة الكونية، أي الحضارة العالمية الراهنة.
ولكن يعتقد معظم الناس بأنَّ هذا التعايش معناه إخضاع إحداهما للأخرى. فالبعض منَّا يعتقد أنَّ ما هو كونيّ من القيم يجب أن يُزيح من طريقه كلّ ما هو خصوصيّ أو يهيمن عليه. بحيث تأخذ القيم الكونية مكان ما هو خصوصيّ، ولو أدَّى ذلك إلى التخلِّي عن الهوية الوطنية. والبعض الآخر يرفض هذه الكونية، ويعتقد أنَّ ما هو خصوصيّ يجب أن يُدير ظهره لكلّ ما هو كونيّ، باسم الحفاظ على الهوية الوطنية. وفي الموقفين معاً سوء فهم وتجاهل للواقع. حيث يضيع جوهر ما هو كونيّ من ناحية أولى، كما يضيع جوهر ما هو خصوصيّ من ناحية ثانية. وهناك موقف ثالث يأخذ بالتلفيق بين قيم هذه وقيم تلك. ومن هنا تنشأ العديد من الثنائيات، التي تطبع ثقافتنا الوطنية، وتوقعها في تجاذبات تستنفد الجهود الفكرية المضنية في سبيل التوفيق، بل توقعها في التنازع والخلاف. وهي ثنائيات تمثّل التقابل بين منطق هذه الثقافة ومنطق تلك. والتي تشكِّل عائقاً لتفعيل كلّ منهما على الوجه الأمثل.