د. عبدالحق عزوزي
إن السنوات الثلاث الأخيرة التي ودعناها في الوطن العربي كانت مليئة بالمفاجآت والوقائع التي لم تخطر على بال أكثر الناس ذكاء، وأكبر المراكز البحثية في أميركا وأوروبا خبرة ومكانة، وأعظم المحللين والإستراتيجيين علماً ودراية،
فما كان أحد يتكهن بأن نظام بن علي سيفنى بين عشية وضحاها، ولا تصور أحد أن أنظمة عربية عديدة ستتهاوى في رمشة عين، وما كان أحد يظن أن أنظمة ديمقراطية انتخبت بأذكى قواعد الشفافية ستزول بدورها كما في اليونان وإيطاليا وغيرهما، وما كان أحد يتصور أن الإخوان الإسلاميين في مصر سيأخذون الحكم في مصر قبل زوالهم... إنها سنوات تحملنا إلى مفهوم سياسي في أكبر معانيه، ألا وهو حمل العام والخاص على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار.
ويمكن تلخيص المصالح الدنيوية اليوم في إقامة العدل والعدالة وتحقيق التنمية: وهي مفاهيم لمعادلة توازنية مجتمعية واحدة. فأنظمة مثل تونس ومصر وليبيا مثلاً كانت بمثابة أجسام مغلقة على نفسها لا يدخلها الهواء النقي، وكانت منفتحة على قاعدة فئوية ضيقة تأخذ من ذلك الهواء الفاسد وتحاول أن تموه على الناس وتقول إنه هواء صالح للحياة، فافتقدت تلك الفئة إلى التمثيلية والشرعية القاعدية التي تصون السلطة بممارسة التفويض الشعبي وتسقيه كل يوم بمبدأ الثقة بين الحاكم والمحكوم الذي يحمي الغرس من الذبول والفناء.
تلك الأنظمة العربية لم تحقق لرعاياها الحضن الدافئ الذي يحميها من الأمراض والأعراض الضارة، ويوفر لها الأمن والطمأنينة والعيش الكريم ورغيف الخبز المقبول، ويتولى تحسيسها بأنها تنتمي إلى التاريخ، بدل القمع المادي والرمزي والاحتقان الاجتماعي والتسلط والانتهاب والحيف، فاقتدرت تلك الأنظمة على شعوبها لسنوات بل ولعقود ظانة أنها مسألة حتمية وقدرية....
وفي هذا الصدد، المغرب وتونس وليبيا هي دول تجمعها قواسم مشتركة كدول عربية ومغاربية وإفريقية ومتوسطية... وكل دولة لها نموذجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي... وكل واحدة منها تكيفت مع الأوضاع السياسية الخاصة بها في السنوات الأربع الأخيرة انطلاقاً من إرثها التاريخي والسياسي وحكمة قاداتها وساساتها ونضج فاعليها السياسيين والاجتماعيين وقدرتهم على فهم الواقع والممكن، والتأثير على مجريات الأحداث والعيش في قالب مؤسساتي يمكن من الحفاظ على قوة القشرة الحامية للمؤسسات والدولة من عدمها.
والمغرب هو الدولة المغاربية الوحيدة التي تعدُّ استثناء من حيث الانفتاح السياسي الذي طبق منذ وقت طويل، وهو الذي وصل ميثاقه السياسي والتعاقدي بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة إلى بر الأمان؛ فحكمة الملكية ونضج الفاعلين السياسيين مكن الجميع من تصور مجال سياسي عام يغني البلاد من ويلات الفوضى والمجهول واللامسؤولية.
أما تونس فقد عاشت لعقود في ظل التجمع الدستوري الديمقراطي كحزب مهيمن على جميع الأطياف السياسية، استحوذ رئيسه الذي كان رئيساً لتونس على كل أبواب المجتمع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عالم سياسي معولم لا يرحم، وفي ظل ساكنة متحضرة درست وتعلمت وضاق صبرها ذرعاً، فكانت ثورة الياسمين وما تبعها من بناء للدولة والمؤسسات طيلة الأربع السنوات الماضية، ثم لا الجيش كان لا مسؤولاً أو متهوراً، بل كان يقوم بدوره كحام محايد لحمى الوطن والدولة والمؤسسات، ولا النخبة السياسية التونسية كانت دون المستوى المطلوب، ولا حتى الإسلاميون كانوا أصحاب غلو أو أصحاب تعنت سياسي لا يفقهون ما يجري في المحيط والداخل، بمعنى أن النضج السياسي لدى المجتمع ولدى الفاعلين السياسيين هي القاعدة الأولى في أي بناء سياسي ديمقراطي جديد وبدونه لا يمكن أن تكتمل لبنات البناء ولا متانة الصرح، وهذا النضج هو الذي مكَّن أخيراً حكومة الحبيب الصيد من أداء اليمين الدستورية أمام رئيس البلاد الباجي قائد السبسي، وذلك في خطوة سياسية دستورية تروم إضفاء الشرعية عليها ويوماً واحداً من نيل الثقة أمام البرلمان، وأكد رئيس البلاد التزامه بأداء مهامه وفق ما يحدده الدستور التونسي، والتزامه بعدم التدخل في عمل الحكومة (أي التأصيل لمفهوم فصل السلط والمهام في دولة تعج بالفقهاء الدستوريين والمجتمع الواعي)... أما ليبيا التي تخلصت من نظام القذافي، فتعيش حروباً داخلية مدمرة حيث القوة للأسلحة والكلمة الأخيرة للميلشيات المسلحة، وحيث غياب النضج السياسي والفكري والمؤسساتي... فليبيا التي كانت تنتج أكثر من مليون ونصف مليون برميل من النفط يومياً قبل الثورة على نظام معمر القذافي في سنة 2011 لا تنتج حالياً إلا 350 ألف برميل، وحذرت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الأيام الأخيرة من أن ليبيا قد تواجه الإفلاس... وهناك خريطة سوداء عن مكونات المجموعات المتقاتلة في ليبيا تدور كلها حول عوامل العصبيات الجهوية والقبلية والنفط والتوظيف السياسي الخاطئ للدين والصراع حول السلطة باسم هاته الطائفة أو تلك... فالديناميات التي طبقها القذافي في حكمه هي التي تضاعفت حدتها ولكن هاته المرة في غياب سلطة مركزية وغياب القشرة الحامية للدولة....
مقاليد بناء ليبيا موجودة عند الليبيين، فهناك زعماء قبائل ورفلة والمقارحة والقذاذفة، وكلها منتشرة في عموم ليبيا وتتركز في الوسط. وهناك قادة قبائل الشرق خاصة قبائل العبيدي والقطعان والمنفة والفرجان، وهناك زعيما قبيلتي التبو والطوارق في الجنوب والجنوب الغربي من البلاد. وهناك النائب باشاغا وأنصاره، وهو الرجل المعتدل في مدينة مصراتة والمدن القريبة من طرابلس في غرب البلاد. ثم هناك، وهذا هو المهم، الجيش الوطني وتركيبته التي تحتاج إلى إعادة هيكلة. فهؤلاء جميعاً بإمكانهم أن يضغطوا على مجريات الأمور لوقف النزيف الخطير الذي يفتك بمصير شعب بأكمله ودولة عزيزة على الجميع... والأدهى من هذا كله أن الكثير من المتتبعين للشأن الليبي يرون أن الميلشيات كلها مكونات هشة يسهل القضاء عليها إذا كانت هناك الرغبة والنضج السياسيين الكافيين لذلك، بمعنى إذا توحدت القيادات القبلية والعسكرية والسياسية الموجودة في البلاد.... وهناك أسماء لضباط لديهم القدرة على حشد الآلاف من الجنود التابعين لهم وهم خارج الخدمة بعد انهيار نظام القذافي، ولكن البرلمان الحالي وجيش حفتر ودول الجوار تتجاهلهم... وعندما انخرط بعض من مئات الجنود السابقين مع جيش حفتر في معارك غرب طرابلس أخيراً، تمكنوا من صد هجمات قوات (فجر ليبيا)، فما بالك لو انضم للجيش الضباط والجنود في الجبهة الغربية؟!! الحل في ليبيا بيد الليبيين وبيد أصحاب النضج والنوايا الحسنة الذين يعترفون بالحق في السلطة على أساس الإدراك بأنه حق عام ومن حيث هي ملكية عمومية...
الدول الثلاث لها مسارات سياسية مختلفة تماماً... فالمغرب دولة تمكنت منذ زمان من وضع أسس تعاقد اجتماعي وحياة سياسية قارة في تطور ودينامية مستمرتين وتتحول فيها سلطة الدولة إلى ميدان للمنافسة الحرة والنزيهة، والتناوب السياسي لم يكن وليد اللحظة وإنما وصل إلى نضجه سنة 1998 عندما تمكن القيادي السياسي المعارض عبدالرحمن اليوسفي من رئاسة الحكومة في المغرب... ولا أخال أحداً يخالفني بأنه إضافة إلى قدم التجربة المغربية، فإن النضج السياسي وإعلاء مصلحة البلاد والوطن على كل مسمى هي التي أوصلت البلاد إلى هاته القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بدون أي تثوير ولا تهييج، وهي التي تحتاج إليها ليبيا اليوم، وهي التي تحاول تونس أن تضعها على السكة الصحيحة.