د. عبدالحق عزوزي
محمد الكتاني واحد من الأدباء والعلماء المغاربة الذين تميزوا في كتاباتهم بدراسات تاريخية وعلمية استفاد ويستفيد منها الخاص والعام؛ وفي تدخله الأخير بأكاديمية المملكة المغربية في حفل فكري بهيج
عن الثقافة المغربية، أعجبتني نظرته عن الثقافة بين الخصوصية الوطنية والقيم الكونية. فالباحث يواجه في قضايا الثقافة صعوبة الاختيار لأحد تعريفاتها المتعدّدة، التي تتناسب والإشكالية التي يودّ تحليلها. فمنذ ظهور كلمة الثقافة في اللغات الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر أصبحت موضوعاً انكبَّ عليه علماء الأنتروبولوجيا وعلماء الاجتماع، الذين جعلوا من (الثقافة) أحد فروع العلوم الاجتماعية. وهو ما أدّى إلى تكوين العديد من التصوّرات عنها، واقتراح العديد من مناهج البحث في ظواهرها. نذكر من تلك المناهج المنهج التطوّريّ، والمنهج البنيويّ، والمنهج التاريخيّ. وهذا الأخير هو الذي يَعتمده الباحثون في تحليل العلاقة العضوية بين التاريخ وبين الثقافة. حيث لا يمكن تصوّر مجتمع ولا فرد في نظرهم مجرّدين عن الثقافة، مهما كان مستواها. وبالتالي أصبح من غير الممكن دراسة أيّ ثقافة بدون ردّها إلى تاريخها الاجتماعيّ.. وهنا نسجّل ملاحظات عدة:
الملاحظة الأولى أنَّ الخصوصية والكونية بالنسبة للثقافة مفهوم جديد. ظهر في سياق التاريخ المعاصر، الذي تطبعه العولمة، أي سيادة أنماط من الأنظمة والقواعد والمؤسّسات التي تتحكّم اليوم في جلّ المجتمعات، وفي العلاقات الدولية، وتفرض نظاماً من التبعية للدول المتقدّمة، في الاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام والبحث العلميّ، بل وفي أنماط العيش والتعبير الفنيّ، تحت ضغط التقليد والتبعية، اللذين كان ابن خلدون (ت. 808 هـ) قد عبّر عنهما قبل أكثر من ستة قرون بقوله: «إنّ المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب لاعتقاد المغلوب الكمال في الغالب».
والتاريخ الأوروبيّ الحديث قد راكم مجموعة من الأفكار التي وضعت حدّاً لكلّ أفكار القرون الوسطى الفلسفية والدينية، وأعلن فلاسفة عصر الأنوار أنّ الإنسان هو سيّد نفسه وسيّد الطبيعة، فيتعيّن أن يستعيد حريته بكلّ معانيها، وأن يجعل من العقل أو العقلانية دليله في الكشف عن قوانين الكون الماديّ. وعندما راكم الغرب العديد من الكشوفات العلمية واخترع الآلات الصناعية ووسائل النقل التي تخترق المحيطات والفضاء عبر العالم، أخذ يطوِّق القارات ويخترق بجيوشه آسيا وإفريقيا وأمريكا. وهو ما جعل الأوروبيّ وهو في أوج سلطانه يرى التقدّم الأوروبيّ تقدّماً للجنس البشري كلّه، ويَخْتزل العطاء الحضاري للإنسان في الحضارة الغربية الحديثة. وهكذا اعتقد الغرب أنّ ثقافته ثقافة كونية، بعد أن أصبحت تخترق كلّ المجتمعات، وتجذب إليها معظم الشعوب. وهو ما جعل جورج لوكاتش GYOR GY LUKACS (ت. 1971 م) وهو أحد المفكّرين الأوروبيين يقول: إنّ الثقافة الكونية الوحيدة هي الثقافة الغربية التي صنعتها أوروبا، وأنّ ما عداها من الثقافات ليس لها إلا طابع الخصوصية الضيّقة، بالقياس إليها. لكن إذا كانت الحضارة الأوروبية قد انتصرت بتسخير العلم لسلطتها في الإنتاج والتسويق واكتساح أسواق العالم فقد تحوّلت إلى رأسمالية متوحّشة، تقوم على الاستعمار لشعوب إفريقيا وآسيا، وعلى تسخير هذه الشعوب للاقتصاد الأوروبي الذي لم يعرف الحدود. وفي هذا السياق التاريخيّ ظهر مصطلح العالمية أو الكونية، ليس فقط بالنسبة للثقافة الأوروبية ولكن بالنسبة لحضارتها أيضاً.
الملاحظة الثانية: إنّ القول بثقافة كونية يتنافى مع ما يعتقده علماء الأنتروبولوجيا وهو ما أكدناه مراراً في صحيفة الجزيرة الغراء. وهو أنّ كلّ ثقافة لابدّ أن تُعبّر عن هويتها القومية، المتمثلة في خصوصيات الشعب الذي أنتجها. وفي هذا السياق يقول العالم الأنتروبولوجي ليفي ستراوس LEVI STRAUSS (ت. 2009 م) : إنّ كلّ ثقافة من المنظور الأنتروبولوجي تؤكّد ذاتها بوصفها الثقافة الحقيقية الوحيدة التي يجدر بها أن تُعاش، لكونها الثقافة التي تعبّر تلقائياً عن ذاتية من يمثلونها. وهو ما نسمّيه الأصالة. فكلّ ثقافة هي بالأساس ثقافة أصيلة، تُجاه أيّ ثقافة أخرى.
وإذن فحينما توصف الثقافة الغربية بأنّها كونية في نظر الأوروبيّ على الأقلّ، فإنّ هذا الحكم لا يجوز أن يحجُب عنّا في الوقت نفسه خصوصية الثقافة الغربية، التي تحوّلت إلى كونية، بفعل نفوذها الاستعماري، وهيمنتها على العالم. لذلك لم يعتبر البعض أنّ الثقافة الغربية كونية إلا من باب فرض الأمر الواقع، الذي ينطوي على مصادرة مبدأ الحق في الاختلاف واحترام الخصوصية. والواقع أنّ الثقافة الغربية هي مجموعة ثقافات قومية متجانسة، من بينها الثقافة الفرنسية والثقافة الألمانية والثقافة الإنجليزية. فهذه الثقافات كانت ثمرة التاريخ الأوروبيّ الحديث، حيث اندمجت بلدانها وقومياتها، بما فيها الولايات المتّحدة الأمريكية وروسيا في تاريخ مشترك، وأبدعت فكراً مشتركاً، هو الذي يُصطلح عليه بالفكر الأوروبي الحديث. وعن هذا الفكر انبثقت الثقافة الحديثة في أوروبا كما تتجلّى في القيم والمناهج التي وحّدت الدول الغربية حول أهداف سياسية واقتصادية توسُّعية، مكّنتها منَ الهيمنة على العالمين الأسيويّ والإفريقيّ.
الملاحظة الثالثة أنّنا عندما نعتبر (التاريخ) بصفة عامّة هو مرجع الفهم لروح الثقافة التي أنتجها تاريخ أيّ أمّة أو شعب فإنّما نتجاوز الدلالة الاصطلاحية للتاريخ، أي الوقائع والأحداث المتعاقبة والمترابطة التي تطفو على سطح التاريخ، ولا نستحضر أساساً إلا ما يعدّ سببًا لتلك الأحداث، وهو الأفكار والقيم المحرّكة للسيرورة التاريخية. وفي هذا السياق توقفنا المقارنة بين الثقافات والحضارات غالباً على وجود توافقات فيما بينها، بل والكشف عن مظاهر تأثير بعضها في البعض أو تأثُرها، وهو ما يعبّر عنه بالمثاقفة. إذ لا توجد ثقافة لم تتأثر عبر تاريخها بغيرها. لذلك فإنّناّ نلاحظ أنّ في كلّ ثقافة قدراً من معطيات التجارب العقلية، المتعلّقة بالفلسفات وبالعلوم، كما أنّ فيها قدراً من معطيات التجارب الوِجدانية والنزوعات الذاتية، والمعتقدات الدينية. ولمّا كانت التجارب العقلية تكتسي في الغالب طابعاً موضوعياً فإنّها تُعدّ مصدر توافق والتقاء بين شتّى الثقافات المختلفة، كالثقافة الإسلامية التي التقت بالثقافة اليونانية وبالثقافة الفارسية في حقبة من التاريخ، وتأثّرت بهما في موضوعات العلم والفلسفة والنظم الإدارية. كما أثّرت هذه الثقافة بدورها في الثقافة الأوروبية في بداية عصر النهضة في المجالات نفسها. وفي ضوء هذا المُعطى التاريخي يمكن اعتبار الخصوصية الثقافية الوطنية بالنسبة للمغرب مثلاً راجعة إلى ما هو وِجدانيّ وذاتيّ واعتقاديّ ولغويّ. واعتبار الكونية بالنسبة للثقافة الغربية راجعة إلى ما هو علميّ وتكنولوجيّ وفلسفيّ واقتصاديّ. وإن كان البعض يختزل الكونية في (الحداثة)، التي يُعبّرون بها عن التطوّر المستمر والمتجدّد للحضارة الغربية، والذي يقتضي من الشعوب الأخرى تجاوز وعيها القوميّ المحليّ إلى وعي كونيّ للانخراط في روح العصر.
وفي ضوء التمييز بين المكوّن العقلانيّ وبين المكوّن الوِجدانيّ، الديني أو الوطنيّ يتجلّى الاختلاف بين الثقافات. وهو اختلاف لا يعني بالضرورة أيّ أفضلية أو تَراتُب. وإنّما يعني الخصوصية والأصالة بالنسبة لكلّ ثقافة وطنية أو قومية. ولذلك لم يقل أحد من علماء الاجتماع بالتراتب أو بالتفاضل بين اللغات، باعتبارها نظاماً تتكافأ فيه الألسن واللغات، كما لا يوجد تفاوت بين الأذواق والفنون، باعتبارها أشكالاً تعبيرية ذاتية، لا يسدّ الدخيل منها مَسدّ الأصيل. ولذلك فحين نضفي على الثقافة الوطنية صفة الخصوصية في مقابل صفة الكونية التي نضفيها على الثقافة الغربية السائدة فإنّما يكون القصد هو التقابل بين ما هو مشترك بين الحضارات والثقافات، وبين ما هو خصوصي لبعضها كالعقيدة واللغة. أو هو التقابل بين ما هو تراثيّ ثابت، مع ما هو حداثيّ متطوِّر.