طراد بن سعيد العمري
يشكل الاتفاق النووي بين إيران والغرب نهاية مسلسل الثورة الخمينية، إذ سيواجه الساسة في إيران مرحلة صعبة وحرجة وهي «مابعد الاتفاق النووي» الذي يشكل في حال التوقيع عليه استنفاد عناصر قيام الثورة الخمينية، ويرى مراقبون أن موجة من «الربيع الإيراني» ستبدأ في الداخل مما يطفي جذوة الثورة الخمينية ويهدد استمرار واستقرار الدولة. فقد غاب عن الساسة في إيران أنهم صنعوا كفن الثورة الخمينية بأيديهم وأنهم خلقوا بعلم أو بجهل «آلية التدمير الذاتي» (Self Destruction Mechanism) ضمن عناصر قيام ونجاح ثورتهم . كيف؟
قامت الثورة الخمينية على ثمانية عناصر: طرد الملكية؛ التهييج الشعبي؛ استعداء الغرب؛ افتعال حرب محدودة؛ تصدير الثورة؛ اعتناق الأيديولوجيا؛ دعم الأقليات؛ وتهديد الدول المجاورة. تلك العناصر الثمانية ذاتها صاحبت معظم الثورات الكبرى، نجدها في الثورة البلشفية (1917)، كما نجدها في الثورة الناصرية المصرية (1952)، لكن تلك الثورات لم تؤت أكلها وباتت عبئاً ثقيلا ًعلى المجتمعات التي احتضنتها. وقعت الثورة الخمينية في خطئين استراتيجيين قاتلين سيؤديان إلى زلرلة الدولة الإيرانية وربما زوالها. الخطأ الأول، في سوء اختيار العدو الذي حددته الثورة الخمينية منذ اندلاعها وسوقت بشكل مكثف على أن أمريكا هي «الشيطان الأكبر»، هذا العدو سيتلاشى بكل تأكيد مع توقيع الاتفاق النووي. الخطأ الثاني، يكمن في سوء اختيار مناطق النفوذ وتصدير الثورة الذي انتهجته إيران، إذ يتعارض ذلك مع مصالح أهم جاراتها، وهي السعودية قلب العروبة والإسلام من دون منازع. ولذا، سيعاني الساسة في إيران أيّما معاناة في إقناع الداخل وخصوصاً المجتمع الإيراني الذي احتضن الثورة وسوّغ قيامها وسوّق مبادئها وقيمها بأن أمريكا لم تعد «الشيطان»، من ناحية. كما ستعاني إيران في مد جسور الثقة والعلاقات وحسن الجوار مع دول إقليمية عربية إسلامية تحيط بإيران ويتأمل المجتمع الإيراني التطبيع معها وممارسة التبادل التجاري والاقتصادي، من ناحية أخرى.
كانت إستراتيجية الثورة الخمينية تستهدف خلق وبناء الشرعية، مثلها مثل أي ثورة أو انقلاب على السلطة، ولا شك أن الثورة حصلت على مبتغاها، ولو مؤقتاً، وحققت الشرعية في ثلاثة فروع، كما جادل بها «ماكس فيبر»، فاستبدلت الشرعية التاريخية بالثورية وحققت الشرعية الكارزماتية والمؤسساتية. اليوم يمكن لنا أن نجادل بأن الشرعية الكارزماتية سقطت مع رحيل الخميني، والشرعية الثورية سقطت مع توقيع الاتفاق النووي وعودة المياه إلى مجاريها مع أمريكا. ونتيجة لذلك ستتهاوى الشرعية المؤسساتية التي غلب عليها رجال الدين (الملالي) الذين تمكنوا في الماضي من استنباط كثير من التخريجات لخدمة الساسة
لقد كان من حسن حظ إيران أن تكون جارة للسعودية تتشارك معها الجغرافيا والتاريخ والدين لو أنها أحسنت استغلال هذه الميزة، لكن الثورة الخمينية ارتأت بدلا من ذلك انتهاج التنغيص السياسي وجعلت من السعودية خصمها السياسي بغية الوصول إلى الشرعية، والحصول على قسط وافر من الهيمنة الإقليمية وتحديداً بعد سقوط العراق في العام 2003م عبر وسائل شتى، ولذا بات من سوء حظ إيران ان تكون السعودية هي المستهدفة في قضايا العروبة والإسلام اللتين تشكلان القوة الناعمة العظمى للسعودية ولا يمكن أن تؤدي بإيران في حال المنافسة أو الخصومة إلا إلى الفشل.
استعدت الثورة الخمينية الغرب، وأمريكا تحديداً، وجعلت منها «الشيطان الأكبر»، وهاهي اليوم تتفاوض مع أمريكا بحجة النووي لكي تصل إلى رفع العقوبات والاقتراب من رغد العيش الموعود خلال أربعة عقود للشعب الإيراني. وهنا يكمن التضاد في الاستراتيجية الخمينية. في نفس الوقت، تستمتع إيران بالتهويل الصادر من بعض الأقليات الثورية والمنشقة في دول عربية بأن إيران خلف إذكاء النعرات الطائفية والمذهبية في دول مثل لبنان وسوريا والعراق والبحرين واليمن على طريقة «لم آمر بها لكنها لم تسؤني». تلك المناصرة لم تتأت من قدرة إيران سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، فضلا ً عن قدرتها على الاستمرار في دعمهم وتمكينهم، بل لمحاولة الضغط على السعودية في قضايا تشكل المصالح الحيوية أو الحساسة للدولة الجارة.
من العسير جداً على إيران أن تهادن أمريكا بعد أربعة عقود من تسويقها كشيطان أكبر لجيلين متعاقبين يشكلان غالبية الشعب الإيراني، ولذا سيثور الشعب والمجتمع الذي صدق الأطروحة الثورية الخمينية. كما أنه من المستحيل على إيران أن تستنزف قدراتها الاقتصادية والسياسية لإشعال حرائق في ديار العرب لمصلحة أقليات ومعارضة ومنشقين في وقت هي أحوج ما تكون فيه لكل ريال إيراني، ولذا، ستفشل في تحديها للسعودية في قضيتي العروبة والإسلام . النتيجة الحتمية هو سقوط الثورة الخمينية في أحسن الأحوال، أما الأسوأ فهو الثورة المضادة في الداخل التي ستزلزل إيران وتعمل على تقسيمها.
أخيراً، سيتم توقيع الاتفاق إن عاجلا أو آجلا، وستنتقل إيران إلى المرحلة التي تليها والسؤال الجوهري الذي يسيطر على المجتمع الإيراني الصبور «وماذا بعد؟». ولذا على الساسة في إيران أن يقرروا واحدا من خيارين لا ثالث لهما: الأول، الاستمرار في البحث عن الزعامة الهشة وإقامة علاقات مع أقليات ومنشقين واستنزاف الخزينة الإيرانية. الثاني، التحالف والتعاون مع السعودية التي تشكل البوابة الصلبة لعودة إيران إلى العالم بعد عقود من الشيطنة الثورية، فتردهر داخليا وخارجيا. ختاما، العهد الجديد الذي تعيشه السعودية بقيادة الملك سلمان هو فرصة ثمينة قد تخرج الساسة الإيرانيين من أزمة ما بعد الاتفاق النووي ولكن بشروط سعودية.