سلمان بن محمد العُمري
العلاقات الأسرية والعائلية القائمة على التواد والتراحم والأخوة واحدة من الركائز الأساسية لاستقرار المجتمعات. وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية تحظى الأسرة والعائلة الكبيرة بمكانة عزيزة في نفوسنا؛ فإليها ننتمي، وبها نُعرف، وتمتد أنسابنا وأحسابنا.
ووجود علاقات أو مصالح تجارية أو مالية تجمع بين أبناء الأسرة الواحدة، أو العائلة الواحدة، في شركات عائلية، يزيد من قوة هذه الأسرة أو العائلة، ويمنحها مزيداً من أسباب التلاحم والتقارب والتواد، القائم على الثقة ووحدة الهدف، لكن ذلك شريطة وضوح التعاملات وشفافيتها، ووجود الضوابط التي تحول دون أن يؤثر تعارض المصالح الذاتية لأفراد هذه الأسرة بالسلب على العلاقات بين الإخوة أو أبناء العمومة أو حتى عمومة العمومة.
فالوضوح والشفافية ووجود الضوابط التي تحمي الحقوق وتحدد المسؤوليات تمنح مثل هذه الشركات العائلية فرصاً أكبر للنجاح والنمو، دون أدنى تهديد لعلاقات الإخوة أو صلات القربى. وفي واقعنا الكثير من الشركات العائلية التي تؤكد ذلك، بل تقدم الدليل على أن مثل هذه الشركات دعامة من دعائم الاقتصاد الوطني، إلا أنه في المقابل نجد أن الثقة المفرطة بين أبناء بعض العائلات العريقة والمعروفة باتساع نشاطها التجاري والاستثماري كانت سبباً في تمزيق الأواصر بين الإخوة والأشقاء، وتبادل الاتهامات بينهم، حتى وصلت إلى وسائل الإعلام المتنوعة.
والثقة بين الأهل والأقارب أمر مطلوب، لكنها لا يجب أن تكون بديلاً عن وجود ضوابط، تمنع العبث أو التجاوزات، وتحمي لكل ذي حق حقه. والشريعة الغراء، أوصت المسلمين إذا تداينوا بدين أن يكتبوه؛ وذلك للحفاظ على الحقوق، والحفاظ بالتالي على علاقة الأخوة بين المسلمين. ولا حرج أو ضير في هذا، بل الحرج والضرر كل الضرر أن تكون الخلافات بشأن هذه الأموال، أو الأصول التجارية، سبباً في الإساءة إلى أنفسنا وأقرب الناس إلينا.
والملاحَظ في الآونة الأخيرة - مع الأسف - انهيار العديد من الشركات والمؤسسات العائلية، وانتهاؤها على فرقة وخصام، وقليل منها ما انتهى وأفضى إلى حلول ودية تعزز من الاحترام المتبادل، وتزيد من قوة الأسرة والعائلة، وتمنحها المزيد من التلاحم والتقارب، بل العكس - مع الأسف - خاصة حينما يحل الطمع، وتنعدم الثقة، وتغيب الشفافية، وتحل الأنانية، ويبتعد الإيثار.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ما الحل لتلافي مثل هذه الإشكالات مستقبلاً مع الشركاء جميعاً أو مع أبناء رب الأسرة الواحدة؟ والجواب لا يختلف فيه اثنان، وهو معلوم، لكنه مغيب واقعياً وعملياً لدى الكثير، ألا وهو التنظيم المكتوب الذي يبيّن الحقوق والالتزامات، ويحدد المسؤوليات، ويضع آلية واضحة ومحددة تسيّر الشركة لسنوات عديدة، وعدم تركها مستقبلاً للاجتهادات الفردية المتعددة التي عادة ما تكون سبيلاً للخلاف والتنازع. وهذا الأمر يغيب عن أذهان كبير العائلة في حياته، وقد لا يحسب حساباً لهذا الأمر؛ لأنه يرى أن الأمور تسير بشكل جيد، لكنه لا يدرك ماذا سيحدث، أو يغمره التفاؤل والثقة في حال الشركة، ولا يظن أن الأمور السليمة الآن قد تؤول إلى مآل آخر؛ فيدب الخصام والفرقة، وتستهدف العلاقات، وتنقطع الصلات.
لقد خسرت أسر كثيرة العديد من روابط علاقاتها، وتحولت إلى خصام وجدل، واندثرت أسماء وشركات كبيرة من السوق المحلي والإقليمي، بل العالمي. فكم كان لدينا من أسماء كبيرة مؤثرة في مسيرة الاقتصاد خبا نورها، وانطفأت شعلتها بوفاة مؤسسها وبانيها، وكم من وكالة تجارية مرموقة أفضى تنازع الورثة إلى انتقالها إلى ملاك آخرين، ما كان لهم أن يحظوا بها لولا ما استجد من إشكالات بين الملاك الجدد.
نعم، إنه غياب الوعي لدى المالك الأول والمؤسس للشركة، أو الثقة المفرطة في الورثة.. نعم، الثقة بحذر، وهي أمر مطلوب بين الأهل والأقارب، لكنها ليست بديلاً عن ضرورة وجود ضوابط تحدد المسؤولية، وتضع الأمور في نصابها، وتحمي حقوق الجميع، وتمنع الاجتهادات، وتسد أبواب الخلاف، وتسهم في دعم روابط العلاقات، والبعد عن الخصام والتنازع.