عبدالعزيز السماري
في كلِّ عامٍ يعود معرض الكتاب، وفي نفس الوقت، تعود الخطابات التي تتحدث عما وراء الأكمة، وعن المؤامرات التي تُحاك في الخفاء ضد المجتمع، وعن ما يخطط له الأعداء من المنحرفين والإباحيين من خطط ماسونية لتدمير المسلمين، وعندما تستمتع إلى هؤلاء بدون الذهاب إلى المعرض، سيتهيأ لك أن المعرض ساحة كبرى للفسق والإباحية، أو أنه أشبه بنادٍ ليلي كبير، تٌدار فيه الكؤوس، وتٌستباح فيه المحرمات.
لكن زيارة واحدة للمعرض ستكتشف أن معرض الكتاب إشراقة حضارية في الوطن، والزوار يمثلون صفوة المجتمع وعقوله المستنيرة، بل إن الظاهرة الصحوية تكاد تهيمن على كثير من دور النشر، ولا ضير في ذلك، لأن معرض الكتاب والحياة هما بالفعل ظاهرة تعايش، وإذا لا يحتمل أحدنا الآخر، سنعود إلى الانطوائية الفكرية، وإلى التقوقع والحوار مع أنفسنا داخل الغرف المظلمة.
لكنك ستدرك أيضاً أن الخطاب عن المؤامرات الكبرى متكرر، وتم استخدام نفس أغراض الخطاب ومفرداته ضد مختلف الظواهر التي مر فيها المجتمع السعودي، منذ فتح التلفزيون، وفتح المستشفيات، وقدوم السيارة، وبدء التصوير الفوتوغرافي، إلى وصول الهاتف والجوال، وإلى بدء ظاهرة السفر للخارج، وإلى قدوم وسائل الإعلام الجديد، وعبثاً حاول النقاد دراسة جذور هذا الخطاب، وإرجاعه تارة إلى الأصولية الدينية، وتارة أخرى إلى المحافظة أو الانغلاق أو غيرها من الظواهر الاجتماعية.
من خلال نظرة موضوعية إلى التاريخ الاجتماعي في الدين الإسلامي، ستدرك أيضاً أن لا علاقة للدين بتلك الظاهرة الارتيابية، والتي تكاد تنظر إلى العالم بنظرات قاتمة اللون، وتخفي داخلها ظاهرة موبوءة بمرض الانطواء التي عاش فيها بعض العرب لعدة قرون بعيداً عن الاختلاط بالحضارات، ويذكر أن فيلسيوف التاريخ الغربي أوزفالد شبينجلر أطلق على تلك الظاهرة بالكهف، وتعني رمزياً المحدودية المظلمة.
وللتدليل على صحة ما ذهب إليه الفيلسوف الغربي أن ضرب مثلاً بالهندسة العربية المولعة بالأقواس، والقباب، والخيمة، وحاول إثبات ذلك في الشعر العربي، وقد تدخل تطبيقاته في كثير من المجالات، لكنها في النهاية تعني رفض الخروج من الأقواس، والإصرار على العيش في ما بينها، وقد تكون له وجهة نظر في تفسير الظاهرة العربية في الانغلاق، لكنها لا يجب أن يكون لها هدف عنصري أو شعوبي، لأن العرب قبل سقوط حضارتهم كانوا دعاة الانفتاح على ثقافة الآخرين في بغداد والقاهرة وقرطبة في عصورهم الذهبية.
لعل ما نعاني منه الآن هو مرض الشك المرضي أو «هوس التشكك»، وفيه أن الإنسان أو الجماعة تعاني من أوهام اضطهادية يعتقد من خلالها أن الآخرين يريدون إيذاءه، وأن هناك مؤامرات ومكائد تحاك ضده، وهذا الاعتقاد يسود على المصاب به إلى درجة إنها تصبح همه الوحيد، ويصبح هدفه الأول والأخير دعمها بالأدلة وجمع البراهين، برغم من وجود أدلة وبراهين واضحة أن اعتقاده غير صحيح، وعادة ما يقوم المصاب بالتصرف بناء على اعتقاده الخاطئ، وقد تتحول ظنونه إلى ردود أفعال عنيفه تجاه من يعتقد أنه المتآمر.
أثبت تتابع التحولات الاجتماعية في المملكة أن خير علاج لتلك الظاهرة هو الانتقال إلى ظاهرة أخرى أكثر تنويراً وانفتاحاً، وقد نجح تلك الوسيلة في تجاوز المواقف الإرتيابية من كثير من الظواهر الاجتماعية السابقة، فظاهرة هوس التشكيك من فتح التلفزيون تم تجاوزها بقدوم «الفيديو»، وتم تجاوز الموقف منه، بالانفتاح الإعلامي من خلال نظام «الساتلايت»، وهكذا.
لهذا لا زلنا ننتظر تجاوز الهوس التشكيكي الحالي من معرض الكتاب من خلال إقامة معرض سنوي للأفلام السعودية والمنتجات التلفزيونية على سبيل المثال، وتقديم جوائز للمبدعين في هذا المجال، وعندها سنكتشف بالدليل القطعي والبرهان الحسي أن ما أحاول إثباته في هذا المقال صحيح، ويستحق التوثيق.. والله على ما أقول شهيد.