عبدالعزيز السماري
عند حدوث أي تغيير وزاري في وزارة الصحة، يعود الحديث عن التأمين الطبي التجاري، وتعود المطالبات بتطبيقه، لكنهم يكتفون بترديد المصطلح بدون التفصيل فيه. وكما قيل يختبئ الشيطان أو المصالح الخاصة في التفاصيل، وتكمن في تفاصيل التأمين الطبي الإجابات الكافية. لكنني مع ذلك لم أتوقع أن تصل تلك المطالبات إلى الإشادة بالمتاجرة بنظام هدفه الاستثمار التجاري في صحة الناس، ثم استغلال حاجاتهم من أجل تكوين الثروات الطائلة، كان آخرها مقال للكاتبة الزميله سمر المقرن بعنوان التأمين الطبي بين الطبيب والتاجر، وكانت تشيد بتجربتها الشخصية في المستشفى التجاري، والتي أحترمها، ولكن توجد أيضاً تجارب مريرة مع القطاع الطبي التجاري تستحق الاستماع إليها، وقد يدخل المقال في ظاهره كدعاية مجانية لمستشفى تجاري بحت، برغم من يقيني التام أنها لا تقصد ذلك.
في زاوية أخري في نفس العدد من جريدة الجزيرة (14 مارس، 2015)، كتب الزميل الكاتب الدكتور حمزة السالم عن أهمية وجود بنية تحتية متكاملة قبل تطبيق التأمين الطبي في مقال بعنوان: «التأمين الطبي وسيلة تشغيلية وهو أعجز من أن يُقِيم قطاعاً طبياً «، في تعليق له على مقال كتبه وزير الصحة السابق الدكتور حمد المانع يطالب فيه بتطبيق التأمين الطبي على جميع المواطنين، مبرراً بأنه يجب علينا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، لكني لم أفهم من الزميل أو الدكتور حمد المانع عن أي تأمين يتحدث، وهل كان عن التأمين الطبي الاجتماعي أم عن التأمين الطبي التجاري، والتي بدأت بعض خطوات تطبيقه على القطاع الخاص، برغم من خروج العالم المتطور منه.
ليس الاختلاف هنا حول نظام «التأمين الطبي الاجتماعي»، ولكن حول دخول التجار والشركات في تقديم تأمين طبي تجاري صرف، وهناك فروق جوهريه بين التأمين الصحي الاجتماعي والتجاري، ولعل الفرق الأساسي بينهما، أن التأمين الصحي الاجتماعي يهدف إلى أن الرعاية الطبية يتم تصميمها لاستيعاب المخاطر الصحية مهما كانت، والتي تخدم الأفراد الذين لديهم احتياجات طبية مكلفة ومعقدة، وكذلك الأصحاء نسبيا، في حين يكون الهدف الرئيس في نظام التأمين الطبي التجاري هو حماية مصالحها التجارية عن طريق تجنب المرضى الذين لديهم احتياجات طبية خطرة أو معقدة من خلال رفع تكاليف تأمينهم الطبي، ولهذا السبب تحاول الولايات المتحدة الأمريكية جاهدة الخروج من متلازمة التأمين التجاري إلى الرعاية الطبية أولاً الإنساني.
ولاية الرعاية الطبية الشاملة من خلال برنامج اجتماعية حكومية هي النموذج الصحيح في التأمين الطبي، والتي توفر للجميع مهما كبر سنهم أو أصيبوا بمرض عضال أن يكونوا تحت الرعاية الطبية المتساوية مهما ارتفعت تكاليفها، على أن لا تكون مدخراتهم مهددة للضياع، كما هو الحال لو كانت الولاية للتأمين التجاري، لأن الغرض الأساسي من تأسيسها هو تجاري مهما استطاعوا تقديم صورة منمقة عن خدماتهم الصحية، لأن وظيفة شركات التأمين الأساسية تحقيق الهدف الربحي من معاناة المرضى، والذين لا يستوون في مدخولاتهم المادية.
شركات التأمين الطبي التجاري تسعى دائماً للحد من تعرضها للمخاطر المالية، وبالتالي تكون إنتقائية في اختيار المرضى الأصحاء نسبياً، وفي تجنب مرضى السرطان والفشل الكلوي والكبدي وغيرها من الأمراض المزمنة، ولا أعرف لماذا يتوقع البعض أن تقوم شركات التأمين التجارية اللقيام بوظيفة الرعاية الطبية الحكومية، وعلينا أن نستفيد من محاولة الأمريكان لمعالجة خلل التأمين التجاري، عندما قامت الحكومة الاتحادية بتقدم إعانات لشراء التأمين التجاري لكبار السن، وقد تبين بالفعل، وبالدليل القاطع أن شركات التأمين التجارية لا يمكن أن تنجح في تغطية مربحه للمواطنين الأمريكان الأكبر سناً، حتى مع وجود الدعم. لهذا لا أفهم إصرار البعض على تطبيق نظام غير إنساني ويهدف للربح المادي الصرف في مجتمع غير صناعي ويعتمد على الإعانات الحكومية للعيش.
الرعاية الطبية الشاملة التي تخضع لتأمين اجتماعي شامل غير هادف للربح، هو النظام الأكثر فعالية وانتشاراً في العالم، في حين لم يُطبق التأمين التجاري إلا في الولايات المتحده الأمريكية، والحكومة الفيدرالية تحاول منذ فترة الحد من تطبيقاته، وقد كان نجاح التأمين التجاري فقط في تلبية احتياجات الرعاية الصحية للعمال في مقتبل أعمارهم، لأنهم ببساطة لا يحتاجونها كثيراً في هذه الفئة العمرية، بينما يعاني المصابون بأمراض طبية مزمنة من ارتفاع تكاليف تأمينهم الطبي، وينعكس ذلك أيضاً على فرص توظيفهم في القطاع الخاص.
لذلك يدخل الاعتقاد بأن الطب التجاري وشركات التأمين الصحي التجارية يمكن أن تنتج أعلى جودة من الرعاية الطبية الحكومية في الوهم في أوضح صوره، ويمكن تبرير المحاولات التي لا تتوقف عن المطالبة بتطبيقه إلى وجود لوبي قوي خلف إقرار التأمين الطبي التجاري في الوطن، في حركة خارج الزمن، وفي اتجاه مصاد لتاريخ تطور الرعاية الصحية في العالم، وفي تطبيقه عودة مؤسفة إلى حيث بدأ الآخرون، لأن ما انتهوا إليه هو فشل التأمين الطبي التجاري، ونحن بحاجة إلى إعادة النظر في نظام الرعاية الصحية القائمة من أجل أن يتطور، ومن أجل أن لا يقع المواطن السعودي من فخ المخاطر المادية في حالة تطبيق التأمين التجاري.
ما يجري من تطبيقات حالية هو تأمين طبي تجاري صريح، وقد تمت تسميته بالتعاوني من أجل تجاوز فتوى التحريم للتأمين التجاري. بينما التعاوني هو التأمين غير الهادف للربح واستغرب كثيراً أن يُطلق على هذه الشركات مصطلح التعاوني، بينما تتداول أسهمها في سوق الأسهم، وتوزع الأرباح على حملة الأسهم، بينما التعاوني هو التأمين الطبي الاجتماعي، الذي ترعاه الحكومة في أغلب دول العالم، لكنه يحتاج إلى متغيرات اجتماعية قبل تطبيقه، مثل أن تصبح الفئات العاملة الأكثر نسبة في المجتمع، وبالتالي قادرة على دفع ضريبة التأمين الطبي للحكومة.
لعل العائق الأكبر أمام الرعاية الطبية الحكومية الحالية هو البيروقراطية والفساد الإداري والمحسوبية، والتي تظهر في صورة قاتمة في كثير من القطاعات. وأعتقد أن الوقت قد حان لإزاحة الحرس الإداري القديم في هذه القطاعات، وإحلال طاقات شابة خبيرة بالإدارة الطبية الحديثة، على تتم الاستعانة بالخبرات الطبية العالمية لتطوير الأنظمة. وقد يكون الحل المثالي في المستقبل في أن يتم تطبيق التأمين الطبي على الطريقة الكندية، على أن تكون علاقة الإنتاج مباشرة بين الحكومة والطبيب، وأن تكون المكافأة حسب إنتاج الطبيب، والله على ما أقول شهيد.