لبنى الخميس
لك أن تتخيل بأن رحلة ذهابك لعملك التي لا تتجاوز عادة 45 دقيقة، تصل فيها إلى مكتبك، تلقي تحيّة عاجلة على زملائك، تسّتند على كرسيّك المعتاد، تفتح حاسوبك بكسل، تتصفّح ما استجدّ على صندوق بريدك الإلكتروني، ثم تستعد لاستقبال يومك العملي الجديد بنشاط، تلك التفاصيل الروتينية تغيب وتخبو، وتصبح رحلة طويلة محفوفة بالخوف والخطر والمعاناة، تنطلق بها إلى وظيفتك.. إلى قدرك، بعد أن تُقبّل وجنتي ابنتك، وتغطيها من برد المكان وقسوة الغياب، وتمضي وأمامك على خارطة الطريق 400 كيلو لتقطعها في شوارع صحراوية قاحلة، تمشّطها وأنت مسّتلق ٍ في الجزء الخلفي لحافلة ظاهرها لا يشبه باطنها، إذ اقتلعت مقاعدها، وتحولت إلى أسرّة قاسية، تهتزّ مع كل مطبّة أو صخرة صغيرة تطأها المركبة، ويتحول عدم استقرارها إلى قاعدة، وثباتها إلى شذوذ. ولا تعرف أين أنت، ولا ماذا يحدث حولك، فستائر النوافذ البنفسجية السميكة تحيط بك من كل جانب، مخفّفة عنك استيعاب عتمة ساعات الفجر الأولى، وعزلة المكان ووحشته، فلا تملك عيناك سوى أن تغمض نفسها قسراً، علّ قلبك يغفو معها عن تذكر دمعة طفلك، وأنت تودعه ولا تدري هل ستحتضن يداه يداك مرة أخرى، وهل سيسعّك العمر أن تروي له حكاية ما قبل النوم التي يفضلها دون باقي القصص.. أم لوعورة الطريق، وبعّد المسافات، وافتقار تلك الحافلة العجيبة التي تقلّك لأدنى معايير السلامة، رأي آخر وكلمة علّيا.
هذا ما تعانيه آلاف المعلمات السعوديات، اللاتي تم تعيينهن بمبدأ «اكشط واربح» في قرى نائية تفّتقر لأدني معايير الحياة الآدمية، في رحلة تخوضها فجراً وهي تستودع نفسها وأبناءها وزوجها الله، غير واثقة بعودتها حيّة، في تلك الصناديق المظلمة التي يُطلق عليها مجازاً «حافلات»، وهي تسمع صوت خوف زميلاتها الدفين في الباص، وهنّ يتحدثّن عن حافلة نقل أخرى تهشّمت قبل أيام على قارعة الطريق بسبب انفجار «كفر»، أو اصطدام مفاجئ بقطيع من الإبل في ساعة دامسة من الليل، ما أدى إلى وفاة جميع المعلمات، ليتبدل بيت شوقي الشهير ويصبح ملخصاً موجعاً لمعاناتهن:
قمّ للمعلّم وفّه التبّجيلا
كاد المعلّم أن يكون قتيلا
أعترف بأني لم أكن أشعر بكل تلك المعاناة المتفاقمة، حينما مرّ علي خبر وفاة عدد من المعلمات إثّر حادث سير شنيع على الطريق بحزن عابر ولحّظي، وأمّضي لقراءة باقي أخبار الصحيفة بروتينية، حتى ركبت الأسبوع الماضي إحدى تلك الحافلات التي تقل خمسة معلمات إلى قرية نائية تدعى «حصاة قحطان» التابعة لمحافظة القويعية، لكتابة تقرير صحفي استقصائي عن ملف حوادث المعلمات في المملكة لإحدى مواد كلية محمد بن راشد للإعلام في دبي، في رحلة استغرقت أربع ساعات ونصف، انطلقت في تمام الساعة الثالثة فجراً والسكون لايزال يغلف شوارع وأحياء العاصمة، وإذ بأبواب بيوت المعلمات تتفتح بحذر وهدوء واحدة تلو الأخرى، ليصعدن إلى الباص، ويمتطين مصاعب رحلة جديدة إلى تلك القرية، التي باتت تشكل جزءاً لا يتجزأ من شخصياتهن ونفسياتهن المتعبة حد الإنهاك، من وجع الشتات وعذاب انتظار بشارة «النقل».
لا أنكر بأني أصبت بمزيج من الخوف والوجوم حينما وقعت عيناي لأول مرة على تلك المفارش والوسائد المنثورة على أرضية الحافلة، التي حلت محل المقاعد المنزوعة، وتلك الأجساد المترمية عليها بتعب واعتياد، وسط غياب شبه تام لأي وسيلة سلامة من أحزمة أمان، أو مطفأة حريق، أو صندق إسعافات أولية.. كل ما شاهدته حولي كان أرواحاً مسلّمة لقضاء الله وقدره، وألسنة تلّهج بالدعاء بأن يلطف الله بنا ويعيدنا لبيوتنا سالمين. في جعبة كل معلمة قصة تفيض ألماً فبعضهن يتركن خلفهن أمةً مسنة ومريضة تفتقر للمرافقة والرعاية، أو ابنة ذات احتياجات خاصة، زادت حالتها الصحية تردياً مسيرة الشّتات والغياب، أو جنين يسكن أحشاءها ويجعل مهمة الترحال اليومي أصعب، فينّزف رحمها محتجّا ً بلا حول منها ولا قوة. تابعنا المسير وسط اقتراب شروق الشمس، حتى توقفنا في إحدى مساجد محطات طريق السفر، والشاحنات تحيط بنا من كل اتجاه، نزلنا لأداء صلاة الفجر، وهي وقفة يومية مجدولة تمر بها معظم باصات نقل المعلمات في المملكة على الرغم من وحشة المكان وخطورته أحياناً، ما دفع بعض المعلمات لاقتناء عبوات تحتوي على خل وملح وفلفل أسود، ليحميهن أنفسهن من حوادث الاعتداء أو الاغتصاب.
وصلنا القرية أخيراً في تمام الساعة السابعة وخمس وعشرين دقيقة صباحاً، ووقفنا أمام باب المدرسة الذي كان مقفلاً، حتى أمرت إحدى المعلمات المستخدمة بفتحه، دلفت المبنى المدرسي برفقة المعلمات اللاتي ترجلن من الباص بعد أن غفين لساعة من الزمن، تضاعفت صدمتي من تردي الوضع العام للمدرسة النائية، بباحتها المكسوة بالحصى والنفايات المتناثرة، وفصولها الدراسية المتواضعة، ودورات مياهها التي أقل ما يقال عنها لا تصلح للاستخدام الآدمي، من بشاعة منظرها، وتعفن مغاسلها، ورائحتها التي تزكم الأنوف، أما غرفة المعلمات فكانت تحتمي بنقاشات حول أسباب تأخر نقلهن واستمرار معاناتهن في قوارع الطريق.. مقال واحد لا يكفي.. للحديث بقية