لبنى الخميس
لم يكن مساء يوم الجمعة عادياً بالنسبة لفتاة في الثامنة عشرة من عمرها، ولم تكن الأحاديث الطويلة، والنقاشات الساخنة، في ساعاته الأخيرة تشبه غيرها من الساعات، إذ كنت أتلقى نداءً صوتياً شبه منتظم، من والدي بصوته الجهور، بأن أصعد لموافاته في الدور العلوي، وما أن أصبح في حضرة مجلسه الممتع والثري والمهيب! يطرح علي سؤاله الأسبوعي، الذي أملك له إجابة وافية حيناً أو أعجز عن تكوينها أحياناً أخرى، وهو: عن ماذا ستكتبين هذا الإسبوع؟ مشيراً إلى مقالتي الأسبوعية في جريدة الجزيرة، هذا السؤال استطاع أن يغير حياتي إلى الأبد، وأن يرسم خريطة فكري واختياراتي وقراراتي في السنوات العشر القادمة من عمري على الأقل، حينما أسس والدي سقفا ًمرتفعاً ذا قاعدة متينة لطبيعة حواراتنا، وشكل اجتماعاتنا، وروح لقاءاتنا، ووجّه بشكل غير مباشر اهتمام ابنته إلى عالم لم تكن تفهم أسراره وقواعده -ولا زالت تحاول-، ألا وهو عالم الصحافة والكلمة.
كل ذلك كبر وتبلور في عالم اجتماعي ساكن، وطريق مرسوم سلفاً لشكل حياة الفتاة ونوعية اهتماماتها، وفي سياق اجتماعي هادئ ومتفق عليه، فوجدت نفسي بعد فترة من الزمن مشغولة بإيجاد إجابة تليق بسؤاله الجاد والملح لي، وصياغة أسباب مقنعة للحديث عن وزارة النقل أو شوارع مدينة الرياض، أو حتى ذلك العرف الاجتماعي الجائر في تعامله مع المرأة! وبدلاً من أن أغضب من عدم امتلاكي فستاناً أو قلم حمرة كغيري من بنات سني، بات أكثر ما يزعجني، تأخر إحدى الوزارات في إنجاز مشاريعها، أو تجاهل مؤسسة حكومية أخرى صوت الشارع وغضب قاطنيه.. وبت أبحث في وجوه الناس وأحاديثهم، وفي صفحات الجرائد وتقارير الأخبار، عن فكرة اقتنصها وأحاور بها والدي، ورئيس تحريري الخاص في مكتبه مساء الجمعة، وفعلاً، وجدت أن فرص خلق حوار ممتع، وصياغة مقال مؤثر بعد البحث والتنقيب الجاد عن الفكرة تزداد، ما اكسبني ثقة والدي عبر السنوات، وكأنه يدربني وهو الذي لم يعمل في الصحافة يوماً، لكنه كان ابن أحد روادها ومؤسسيها في المملكة الشيخ عبدلله بن خميس رحمه الله، وعاش محاطاً بأعداد صحيفة الجزيرة، ومزاج أب محتقن وهو يطبخ ذهنياً فكرة مقال حين كان رئيس تحرير، على أن أكون كاتبة صحفية ليس على الورق فحسب، وإنما في الحياة بشكل عام، عبر محاولة استثارة فضولي، وتذكيري دائماً بأن الله يهدي كل شخص قبل ولادته صندوقاً أسود ذا شريطة حمراء بداخله: «موهبة». البعض يظل عاجزاً عن فتح الصندوق، وحينما يفتحه يبقى حائراً في فهم ما بداخله، أو استثمار تلك «الموهبة المغلفة».
أستذكر تلك اللقاءات بفخر الابنة الممزوج بمرارة فقد والدها، وعرابها، ورفيق حكايتها، ومن مد يديه لفك الشريطة الحمراء والاحتفاء بما داخل الصندوق، فبعد أيام من نشر هذا المقال تمر أربعة أعوام على وفاته -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- بعد صراعه المرير مع السرطان.
وفاته التي اعتقدت بعدها بأني لن أستطيع أن أحمل قلماً أو أكتب كلمة، كيف لا ومن تهجأت معه أول مقال نشر لي رحل؟ وترك خلفه صدرا ًمكلوماً وقلماً مكسوراً وعقلاً غاضباً من قسوة الحياة وهمجيتها. فكيف أكتب؟ وهل هناك حقاً ما يستحق أن أكتب من أجله؟ لا أدري لماذا كنت أشعر بأني أكتب لك وحدك، ولا تمر أيادي شخص آخر على الجريدة سواك. احتفاؤك بنصي، حملك مقالي المقصوص من الجريدة في جيب ثوبك الأبيض، ومشاركته مع أصدقائك في المجلس أو الاستراحة، لعمري هو ما جعلني كاتبة.. من أجلك يا أبي كتبت.. ولأجلك اليوم أكتب، متممة أمنيتك التي زرعتها فيني، وآمالك التي علقتها علي، واعلم يا أبي بأني بعد أقل من ثلاثة أشهر أمشي بين زميلاتي الخريجات لاستلام شهادة دراسة الصحافة من الجامعة الأمريكية في دبي، ذلك الميدان الذي لطالما آمنت بأنه موهبة أكثر من كونه تخصصاً، أقف مترقبة بين الخريجين وكلي ثقة بأني سأبحث عن ملامحك وسط الحاضرين، أتأمل قدومك مع دخول كل مدعو ومدعوة إلى القاعة، تأتي وبيدك باقة ورد، ودموع فرح وفخر، فأعانقك عناق الابنة التي أتعبها الشوق وأنهكها الغياب ولوعة الفقد، وأطبع قبلة على يديك، كما طبعتها سابقاً على أيدي القدر الذي شرفني بأن أكون ابنة رجل استثنائي مثلك، آمن بالمرأة ودورها في صناعة المستقبل وتكوين غد أفضل للوطن، بقلبها وقلمها، وما إيمانك بي ودعمك المتواصل لي إلا دليل على ذلك..
اليوم، لا أكتب عنك في ذكرى رحيلك كي يحزن الناس، وإنما ليزيل عني قليلاً من حزني، فبعد أربعة أعوام على فاجعة رحيلك، تضج في داخلي أشواق وأحاديث لطالما تمنيت أن أشاركها معك، عن العائلة والوطن والحياة، وأسرق من سطور حديثك الدافئ جملة تطمأنني وتمدني بالتفاؤل والأمان الذي لطالما عهدته منك.. فرحمك الله يا أجمل الآباء وغفر لك وأنزل على قبرك الضياء والنور.