د. جاسر الحربش
لست متخصصا في السياسة، لكنني أقرأ كثيراً في التاريخ. التقاء المصالح الأمريكية مع الإيرانية أصبح ضرورة إستراتيجية كبرى للطرفين، تتعدى الشأن المحلي العربي، المقدور عليه لأنه في الجيب.
استعملت في العنوان كلمة لقمة، وليس محطة أو هدف، لأن هذه المفردة هي التي تعبر بدقة عن شهية إيران وطريقة تناولها للطبق المفتوح أمامها. الهدف من الوجبة الجيوسياسية ليس التهام لقمة متى أصبحت سانحة بالصدفة، بل التخطيط لابتلاع الموجود في الوسط في قلب الطبق. الأماكن المقدسة في الغرب ومخزن الطاقة في الشرق هي أشهى ما في الوجبة. الهدف واضح من تصريحات المسؤولين الإيرانيين، وقد أصبحت تتكرر بتواتر سريع، لجس النبض الإقليمي والعالمي تجاه ذلك.
السؤال الجاهز، ما هي مصلحة إيران من التورط في أصقاع اليمن البعيدة عنها، وهي مقبرة الغزاة التاريخية؟. هذا السؤال يقوم على استنتاج غير موجود، فإيران لم ولن تغزو اليمن عسكريا وليست بحاجة لذلك، لأنها استلمته بالاستثمار في المذهب، أي بالدعم المنهجي المالي والتدريبي والتثقيفي، للفرع الحوثي من الزيدية في اليمن. لا يوجد مبرر ولا حاجة لغزو بلد قد سقط في دائرة تأثيرك بالفعل، لكنك تستطيع استعماله لإشغال الخصوم ضمن تخطيطك التوسعي الإستراتيجي. إيران تستعمل اليمن تكتيكياًً لإشغال السعودية ودول الخليج في الظهر، أي من الخلف، ومحاولة الإثخان بالجراح من هناك. هكذا هي الحرب، أن تحاول إشغال الخصم من الخلف والأطراف لأنك تريده أن ينزف.
قضم الأطراف لقمة بعد أخرى، بدأ عملياً عام ألفين وثلاثة ميلادية. أمريكا أمسكت بالفريسة العراقية وسلمتها لإيران. شيء ما تتخطى محاولات فهمه كل المعلومات المتوفرة خارج دوائر الاستخبارات حصل في سوريا. اندلعت الثورة الشعبية في سوريا تحت هدف واحد هو إسقاط الدكتاتورية، ثم تحولت بسرعة مذهلة إلى فوضى مسلحة وقتال بين فصائل الثورة نفسها. من الذي يسلح ويدفع الأموال ولماذا ينعدم التنسيق بين الفصائل الثائرة طالما أن الهدف هو نفسه؟. لا أحد يستطيع تقديم الشرح المنطقي لذلك. تبقى النتيجة هي الأهم وهذه كانت تمكين إيران من حكم سوريا من دمشق وليس من طهران. سقطت اللقمة السورية في البلعوم الإيراني. قبل ذلك كانت اللقيمة اللبنانية الصغيرة قد استقرت بسهولة في جوف إيران. وجبتان ونصف، العراق وسوريا ولبنان تم بالفعل هضمها في المعدة الإيرانية. ثلاثة أرباع اليمن الآن يقف في زور إيران في طريقه للابتلاع، وتم ذلك بدون إرسال جندي إيراني واحد. الحوثي وعلي عبدالله صالح والأموال الخليجية التي جمعها خلال ثلاثين سنة مضت تكفلت بما حصل. إيران تتوقع من الحكومة السعودية أن تتورط عسكريا في اليمن، لكي يبدأ النزيف والإنهاك.
السعودية معروفة بالتأني وعدم الانفعال المتسرع، ولذلك حسب ظني وأملي لن تتدخل بالقوة العسكرية في اليمن. في اليمن من الرجال الكفاية ولكنهم يحتاجون المدد المالي والدعم اللوجستي من الدول العربية. لدى السعودية ودول الخليج العربي بدائل أخرى كثيرة وفعالة، لكي تشغل إيران في ظهرها وتضع الخناجر الأحوازية والبالوشية والأفغانية في ظهر وأطراف إيران. التهيب من اللعب بنفس الأوراق التي تجرأت إيران على اللعب بها ضد جيرانها هو الذي زاد من جرأة إيران، فاستمرأت اللعبة المكشوفة حين لم يحدث الرد المتكافئ من الطرف الآخر. لم تتهيب إيران حتى من استعمال المنظمات الإرهابية العربية السنية ضد الدول العربية السنية، فتعاملت مع القاعدة، وهذا مؤكد، ومع داعش وهذا أكثر من محتمل، ولكن الطرف الآخر بقي مشلول الحركة أمام الثعابين السامة.
سؤال آخر سوف يطرح، هل تفكر إيران بأن تكون الكويت وليس البحرين اللقمة التالية ؟. الأسباب سهلة الاستنتاج. الكويت أكبر وأسمن وتقع مباشرة في الجوار مع إيران والعراق التابع الإيراني، في الكويت طابور خامس موال لإيران أكثر غنى وأحسن تنظيما وأنشط إعلاميا في التعبير عن التعاطف مع مشروع «الجمهورية الإسلامية الكبرى». الكويت أيضاً دولة نفطية والبحرين ليست كذلك، وخزائن الكويت مليئة بالعملات الصعبة. في الكويت، لأسباب نجهلها، يتم تعامل الإعلام السني المؤيد لدول الخليج العربي دون فعالية فيما يتفوق النشاط الإعلامي الشيعي المؤيد لطهران. يبقى العنصر المهم عسكرياً وهو الامتداد الترابي بين الكويت والسعودية وإيران، فالبر خلفهم وأمامهم أيضا ولا بحر يفصل بين الثلاثة.
لقد كان مفهوما ومبررا وقوف دول الخليج مع التحالف الغربي ضد العراق بسبب غزو الكويت، لكن ذلك التعاون كان من المفترض أن ينتهي بعد التحرير وتحطم الهيبة العسكرية العراقية. المشاركة في حصار التجويع على العراق، العربي آنذاك، ليس له مبررات سيادية ولا قومية ولا مذهبية ولا من أي نوع آخر. لكن الذي حصل أصبح تاريخا ويجب التصرف مستقبلا لمحاولة التصحيح لكيلا يحدث للآخرين ما حدث للعراق وسوريا.
رحم الله نصر بن سيار الكناني، القائل:
إني أرى القوم قد كادوا لكم ونووا
حرباً تحرق في أطرافها الحطب
اقرأ مرة أخرى أنه يقول في أطرافها، تحرق في أطرافها الحطب. التاريخ أعاد نفسه. ويقول ابن خلدون:
إذا رأيت الدول تنقص من أطرافها والأقاليم تكدس الأموال وجب رفع الأذان بالخطر.