د.عبدالرحيم محمود جاموس
صيف العام 1974م كان صيفاً فلسطينياً حاراً ورطباً، كانت الحوارات السياسية فيه ساخنة بين الشباب الفلسطيني الثائر، كانت حرب أكتوبر/1973م قد تركت أثرها البالغ على الساحة السياسية العربية والدولية، كما الفلسطينية خاصة، حيث أقر المجلس الوطني الفلسطيني في دورته العاشرة المنعقدة في القاهرة برنامج النقاط العشر، أو ما عُرف بالبرنامج المرحلي، الذي أقر بموجبه قيام السلطة الوطنية على أي شبر من الأرض الفلسطينية يندحر عنها الاحتلال، كان ذلك البرنامج يقدم رؤيا سياسية واقعية من أجل تأهيل م.ت.ف للمشاركة في أي تسوية سياسية قد تحصل نتيجة لحرب أكتوبر التي شاركت فيها الفصائل الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني على أكثر من جبهة، إلى جانب الجيوش العربية الشقيقة سواء في الجبهة السورية أو الجبهة المصرية، وانقسم الشارع السياسي الفلسطيني حينها إلى جبهتين، جبهة الرفض، وجبهة الاعتدال.
في ذلك الصيف كان اللقاء مع المناضل والمفكر الفلسطيني / منير شفيق «أبو فادي» / الفتحاوي، والذي كان يجاهر بمعارضته للبرنامج المرحلي، ويصفه بالتنازلي، وأنه سيفتح الباب للتنازل عن العديد من المواقف التي لابد أن يستمر التشبث بها خشية أن يتحول المرحلي إلى نهائي، «أبو فادي» كان نائباً لرئيس مركز التخطيط في م.ت.ف والذي كان يرأسه المناضل نبيل شعث، كما تعرفت إلى المناضل حمدان عاشور «أبو عمر» نائب مفوض التعبئة والتنظيم آنذاك في حركة «فتح» والذي كان يتخذ أيضاً موقفاً نقدياً من البرنامج المرحلي، ويكيل الانتقادات التنظيمية للقيادة الحركية ويصف عملها بالارتجالي، خصوصاً أنه من طلائع المؤسسين في حركة «فتح» ويؤمن بضرورة التنظيم وعدم تدخل القيادة فيه، ويعد تدخلها مضراً، ويضرب مثلاً على ذلك بالتجربة التنظيمية التي كان قد أشرف عليها في إقليم لبنان، وكيف ضربت تلك التجربة بسبب تدخلات اللجنة المركزية، وتعرفت في الأثناء نفسه على المناضل والمفكر العربي المصري الدكتور / محجوب عمر، الذي كان يداوم أيضاً في مركز التخطيط، وقد بهرتني شمولية التفكير لديه وعمقه ووطنيته وقوميته الخالصتين، ودعوته للوحدة للقوى الثورية والوطنية على اختلافها في مرحلة التحرر الوطني، التي تحتاج لكل الجهود ونبذ الفرقة والتوحد لمواجهة التناقض الرئيس مع العدو الصهيوني، وزادني إعجاباً بالدكتور محجوب أنه صاحب تجربة في الجزائر ثم انتقل ليكمل تجربته النضالية في صفوف حركة «فتح».
أسفل بناية مركز التخطيط كان مقهى «أبو نبيل» حيث الكنافة النابلسية على الطريقة البيروتية والقهوة الإكس برس، كان اللقاء مع ثلاثة من الشباب الثائر والمثقف، أولهم الشاب الأسمر الهادئ وهو الشاعر الشهيد /علي فودة، الذي كتب لفلسطين بالدمع والدم، وتأخذك نصوصه الشعرية إلى كل ذرة تراب من تراب فلسطين، وإلى كل نقطة دم سالت من أجلها، وكل دمعة حارقة سالت على خد أم أو طفل مشرد اكتوى بنار نكبتين، إنه صاحب نشرة (الرصيف)، وقد قضى شهيداً وهو يوزع نشرة الرصيف على الثوار والفدائيين على أرصفة بيروت، وهي تحت القصف والحصار في حرب الاجتياح سنة 1982م. والثاني شاب آخر أسمر البشرة كان نحيل البنية لكنه كان يتدفق حماساً وثورية، ومنحازاً لطبقة العمال وهمومها ونضالاتها، وصاحب نشرة يطلق عليها اسم (الجماهير)... إنه الشاب المثقف /حسن عصفور، والذي كان يمتدح البرنامج المرحلي ويرى فيه رؤيا واقعية تجعل من أهداف النضال الوطني الفلسطيني أهدافاً ممكنة التحقيق، وتنهي عصر الوصاية على الشعب الفلسطيني وقضيته. وأما الشاب الثالث أبيض البشرة كان يتحدث بشيء من غرور المثقف الثائر، وينتقد مؤسسات الإعلام الفلسطيني ويصفها بالقصور، إنه الكاتب والمثقف الفتحاوي / رسمي أبو علي، والذي أعتقد أنه قد استقر في عمان، كاتب مقالة في الصحف الأردنية. ذلك من ذكريات لقاءات تركت أثراً في الذاكرة في صيف بيروت للعام 1974م.