د. جاسر الحربش
المجتمع الذي يعتقد بجدوى البقاء على قيد الحياة بفضل المساعدات المالية والغذائية الخارجية مجتمع متخلف، بل وفي الدرك الأسفل من التخلف والتبعية. وكذلك المجتمع الذي يعتقد أنه بخير لاستطاعته شراء السلع والخدمات بمقايضة الثروات الطبيعية، غض النظر عن القبول بشروط المساعدات الأجنبية لا يختلف عن السكوت عن تحويل نصف الثروة الوطنية سنوياً إلى الخارج مقابل القدرة على الاستهلاك والمزيد من اللعب بمستقبل أجياله القادمة.
بناءً على ذلك يجب الاعتراف بأن الحاضر العربي لا يسر، وأن المستقبل أصبح مجرد كلمة تثير المزيد من القلق. العنوان العريض لهذا البؤس المزدوج هو التخلف الواضح في كل شيء، في الفكر المنفتح الاقتحامي، وفي الحقوق الأساسية، وفي التقنية والإنتاج. قدرة التخلف على الصمود تستند إلى قواعد صلبة تحميه من السقوط، ولكن قبل ذلك يجب تعريف التخلف. ماذا يمكن أن تسمى منطقة جغرافية شاسعة من العالم غنية بالثروات الطبيعية، يسكنها أربع مائة مليون نسمة، تعيش دولها الفقيرة على المساعدات الأجنبية، وتعتمد دولها الغنية على المهارات والخدمات المستقدمة من الخارج؟. لا يوجد تعريف أخف وطأة من التخلف الشامل عند الجميع. على أن الإشكال الحقيقي ليس في التعرف على علامات التخلف، فهي واضحة في أولويات الأنماط المعيشية وطرق التفكير، ولا إشكال في إدارك الأسباب، فهي أيضاً على درجة عالية من الوضوح. الإشكال يقع في حقيقة قبول التخلف بقناعة تامة عند المتضرر منه لدرجة الاستعداد للتضحية بالنفس للمحافظة عليه، وكذلك في الدفاع الأناني عند المستفيد المباشر منه بادعاء المحافظة على المجتمعات من الانهيار والسقوط في التبعية. لو كانت علامات الانهيار والتبعية في مجتمعات التخلف نسبية يسهل استيعابها وتجاوزها، أو لو أنها ظواهر نادرة لا يصح الاستدلال بها لأصبح القبول بها أسهل، لكن الواقع الفعلي في كل الجغرافيا العربية غير ذلك. هناك تخلف فكري وحقوقي وإنتاجي وأخلاقي (سفك دماء واستباحة أعراض، وفساد مالي وإداري، وزيجات مزيفة)، وهناك تبعية تشمل حتى لقمة العيش وجرعة الماء وقرص الدواء.
تكتمل المصيبة حين تكون تبريرات البقاء في التخلف جاهزة ومتوفرة في العقل المتخلف ولا تكلف سوى الجرأة الكلامية والعبث بعقول الأتباع بالشعارات، رغم أن فاتورتها النهائية معروفة وفادحة. تحصين العقول ضد الأفكار المستوردة، المحافظة على الأخلاق الرفيعة، صون كرامة وعفاف المرأة المسلمة، حماية الشباب من الإنزلاق إلى عالم المخدرات والجريمة والإرهاب، التأدب بآداب الإسلام في البيت والشارع والمدرسة، التعود على عفة اللسان وحسن التصرف في التعامل الاجتماعي في الداخل والخارج، هذه بعض الشعارات الجاهزة للدفاع عن التخلف الذي هو فعلاً كذلك، بدلالة عدم تحقق القدر المقنع من شحنة الشعارات التبريرية.
انتهى الحديث عن وجوب الاعتراف بالتخلف وبمظاهر ودلالات التخلف، وعن تقديم نماذج من التبريرات التقليدية للتعايش معه. ويبقى الأهم، أي كيفية الخروج من مأزق التخلف والتبعية. الحديث في هذا لا يحتاج إلى ابتداع طريق جديد، بل يكفي الاقتباس من تجارب الأمم التي سبقتنا إلى التخلص منه. لم يحصل الانعتاق من سجن التخلف عند أي أمة ما لم تتعامل مراكز المسؤولية الوطنية فيها مع الظرف التاريخي الضاغط، بما يتطلبه دون تأجيل. لم يحدث قط في التاريخ أن عثرت أمة على الطريق الصحيح دون قيادة وطنية مستنيرة وشجاعة ترسم لها خارطة الطريق، لتكون بكامل طاقاتها في المقدمة. القطيعة الصريحة والمنهجية مع البنى والمفاهيم المبررة للتخلف والمتربحة منه، إضافة إلى الرؤية الاستشرافية لأولويات المستقبل، تشكل أهم صفات القيادات الوطنية المستنيرة. من الطبيعي أن تكون قيادتنا الوطنية هي المخولة والمؤهلة لإحداث التغيير، خصوصاً أن الظرف التاريخي السياسي والأمني والديموغرافي أصبح يضغط على هذا الوطن من كل الجهات.