د. محمد عبدالله العوين
توجهت «الثورة الإسلامية الإيرانية» مطلع القرن الهجري الجديد إلى البيئات العربية الحاضنة للطائفة الشيعية، تدغدغ أحلامها وتعزف معها على وتر «المظلومية» والانتصار للحسين بن علي - رضي الله عنه - ولآل البيت المطهرين، ووجدت الطائفة الشيعية في العراق ولبنان وسوريا والبحرين وبعض دول الخليج العربية في قم «المقدسة» حضنا دافئا توجهوا إليه؛ إن لم أقل اتخذوه محجا، واتخذوا من الحوزات العلمية الفقهية التي أعادت برمجة أنشطتها وتخريجها للدعاة المعممين ولفقهاء المذهب مزارا، كما أن الأتباع وجدوا في الاتكاء على الولي الفقيه المنقذ والساعي إلى تحقيق آمالهم وأحلامهم، وهكذا استثمر معممو «قم» ببراعة وذكاء تلك العواطف المذهبية المشبوبة الفوارة واستغلوها أيما استغلال؛ على الرغم من الفوارق الحضارية والتاريخية والفكرية الهائلة بين العربي المنتمي للمذهب بإخلاص وصدق ومحبة واقتناع، والفارسي المؤدلج الذي يتخذ من الانتصار للمذهب وسيلة ميسرة سهلة لتحقيق استعادة أحلام الإمبراطورية الفارسية منذ عصور الفتح الإسلامي الأول إلى اليوم؛ ولكنها لم يحالفها النجاح رغم المكايد والخيانات والخطط اللئيمة من أبناء الفرس؛ كابن العلقمي والبرامكة وابن المقفع وغيرهم.
اتجهت إيران المعممة إلى شركائها؛ فأيقظت فيهم المشاعر الطائفية وأججتها بالخطب والوعود وأمدتهم بالمخططين والمدربين والأموال، ومدت يدها إلى «حزب الدعوة» في العراق ليواصل نشاطه من جديد بعد أن كاد يلفظ أنفاسه باغتيال وتصفية أبرز قادته على يد نظام صدام حسين، وذهبت إلى لبنان فأنشأت لها فصيلا عسكريا هو «حزب الله» عام 1982م يعود في مرجعيته وخططه وأعماله وكل صغيرة وكبيرة إلى مرشد الثورة الأعلى «الخميني» في طهران، ومدت يدها أيضاً إلى النظام الطائفي في سوريا الذي وجد في ثورة الخميني المرجعية والقوة والأمان؛ بعد أن كان يتوجس خيفة من محيطه، ورفعت سوريا والأحزاب المنضوية تحت راية «قم» شعار المقاومة لإسرائيل؛ كي تندفع نحوها العواطف العربية وتجد في تسليحها حجة وغطاء؛ لا لمقاومة إسرائيل المزعومة؛ بل لتهيئة الكوادر الحزبية المعلنة وغير المعلنة للنهوض بالأدوار المرسومة في المنطقة متى ما حانت الفرصة المناسبة، وقد كشفت أزمة الثورة في سوريا مقدار التلاحم والانصهار بين نظام بشار وطهران وحزب الله، وانجلت الصورة المغيبة في مخطط تدمير العراق عن الغاية التي سعى إليها الغرب من توريطه في غزو الكويت؛ لاستدراجه كي يقع في الفخ ثم تسليمه إلى إيران، وهكذا أصبحت هي الآمرة الناهية المدبرة دون أن يستطيع أحد الوقوف في وجهها في العراق وسوريا ولبنان، ووصلت أخيرا إلى اليمن ونصبت بالتواطؤ مع القوى الغربية مندوبها الحوثي على كرسي الرئاسة المنتزع في صنعاء!
وقبل ذلك استنبتت بتنسيق مع الروس ونظامي المالكي الغارب وبشار المحاصر بهياج الثائرين طائفة جديدة منحرفة منتزعة من عمق التيار السني؛ لتضرب المنطقة السنية بها؛ تلك هي «داعش» التي أطلق العراق مساجينها الثائرين على الغزو الأمريكي للعراق وهيأ لها بالتنسيق مع بشار فرص التكون؛ فتغاضى عن تجمعها في الرقة، ثم انسحب لها عن مدن وقواعد عسكرية، وفعل المالكي أكثر من ذلك؛ حيث أمر بانسحاب قادته من مدينة «الموصل» لتصبح المدينة الثانية الكبيرة بعد الرقة التي تنطلق منها داعش وتتمدد وتهدد المنطقة كلها؛ بينما لا حزب الله ولا إيران ولا النظام السوري يواجهون «داعش» مواجهة حقيقية، وكأنها غير موجودة!
إيران المعممة هي أم المشاكل في المنطقة، ولو بقيت في حدودها الطبيعية وتعاملت بأخلاق حسن الجوار وتخلت عن أحلام الإمبراطورية؛ لما تفجرت المنطقة بكل هذا الكم من المآسي، ولنقارن كيف كانت الخريطة العربية قبل ثورة الخميني 1979م وبعدها؛ لندرك الغاية الرخيصة التي جيء بالخميني إلى عرش طهران؛ ليعيد الغرب من خلاله منح السيادة العليا على دويلات العرب المقسمة الضعيفة لإسرائيل وإيران.