حمّاد السالمي
مرت أوروبا بعصور ظلامية سبقت الثورة على الكنيسة، وفي هذا الوقت الذي كان فيه الأوروبيون يخضعون لظلمات وظلاميات رجال الدين وتسلُّط الكنيسة على حياتهم العامة، كان العرب والمسلمون يعيشون أزهى عصورهم التنويرية التي عرفوها، وكانوا بما وصلوا إليه من تطور وعلوم، أحد أهم أسباب الثورة التي لم تغيِّر أوروبا وحدها، وإنما غيَّرت
كل العالم فيما بعد.
* اتسمت الظلامية المسيحية في أوروبا في ذلك الوقت، بالتخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي, وانحطاط الثقافة والفنون والآداب, وانتشر بينهم ما يُسمى (الشعر الشعبي) ومسرح الإسفاف، واهترأت المؤسسات المدنية والقوانين المنظمة للحياة, وساد بينهم ازدراء العلوم والتكنولوجيا, وانتشرت الخرافة والجهل والفساد, والسبب الأول في هذا كله، هو سيطرة رجال الدين - (الكنيسة) - على الدولة والسياسة والحياة اليومية.
* ما كان لسيطرة الكنيسة أن تستمر, لأن سلوكها كان ضد منطق التاريخ وضد مصالح الشعوب التي كانت تحتاج إلى الحرية الشخصية والتحرر الذهني واستخدام المنطق والعقل من أجل التقدم والرفاهية, وقد كان جلياً لهذه الشعوب حجم الدمار والفساد الذي تسبب به رجال الدين لدولهم, فقد عانت من حجر الفكر والإبداع, وعانت من المرض والفقر والتخلف والفساد والخيانة للأوطان, وعانت من هدر أموال دولهم، حتى عاشت في فقر مدقع وظلام دامس لقرون, وعانت من ضعف الملوك والحكام وإذعانهم للكنيسة، فثاروا عليهم وتمردوا، وجاءت عصور النهضة والتنوير لتغيّر مسار التاريخ البشري, وتجاوزَ الملوك خوفهم ورهبتهم من رجال الدين, فعزلوهم عن السياسة، وتقلصت سلطات البابا السياسية في دولة صغيرة ذات بعد معنوي هي الفاتيكان.
* كان للعلماء ولرجال الفكر والأدب والتنوير, دورٌ مهمٌ في عصور النهضة الأوربية التي اجتاحت العالم، وأصبحت أوربا أهم المراكز التجارية, كذلك كان لجرأة الملوك وحزمهم تجاه رجال الدين دور في إزالة العراقيل وفتح سبل التقدم العلمي والتكنولوجي والفكري حتى يومنا هذا. في هذا الوقت الذي بدأ النور يعم أوروبا، أخذت جحافل الظلام تعم من كانوا سبباً رئيساً في التنوير في عموم بلاد العرب والمسلمين، بسبب عدم اهتمام المسلمين بالقراءة والاطلاع التي هي مفتاح كافة العلوم، ففي القرن الخامس عشر الميلادي، أفتى بعض العلماء المسلمين بأن تقتصر القراءة لتوسيع معرفتهم الدينية فقط..!
* ومن التلازم العجيب الغريب أننا عرفنا في عصرنا هذا وبعد مرور حوالي ستة قرون، من يكرر ذات الفكرة ويقول بأنه: (لا علم إلا العلم الشرعي)..! وكأننا سوف نستمر في الغلطة الكبيرة ذاتها التي تسببت في الردة الحضارية للعرب والمسلمين منذ بزوغ فجر النهضة في أوروبا إلى اليوم، والتي أعادت فاتحي الأندلس وصقلية واليونان وأجزاء كثيرة من أوروبا مهزومين إلى صحاريهم وجبالهم التي خرجوا منها قبل ذلك..!
* هذه القضية الكبيرة التي تتعلق برفض العلوم الدنيوية، بل ومعاداتها في كثير من الأحيان، عالجها عرّاب النهضة الماليزية (مهاتير محمد) ذات يوم بمقال علمي رصين تحت عنوان: (الإسلام والعلم)، ومما قال فيه قبل أكثر من ستة أعوام، ونُشر في صحيفة (ماليزيان ميرور): (إنّ الأمة الإسلامية كانت متفوقة في مجالات العلم، فلماذا تتخلف حاليًا في مجال العلم والتكنولوجيا)..؟!
* مَنْ مِن العرب والمسلمين قرأ هذه الأفكار التنويرية التي بثّها صاحب (المعجزة الماليزية) ووجّهها لكل المسلمين..؟! قال مهاتير: (إنّ المسلمين الأوائل نزل عليهم أمر الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم بالقراءة في قوله تعالي: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، ولم يحدّد الوحي الذي نزل على الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ما يجب على المسلمين قراءته).
* من المهم أن نعرف أنه لم يكن أمام المسلمين في أول عهدهم كتبٌ عن دينهم سوى القرآن الكريم، ولكنهم انفتحوا على الحضارات، واستفادوا كثيراً من كتب أمم أخرى سبقتهم حضارياً بلغات عبرية وفارسية ورومية وهندية، وعرفوا علوم الفلسفة اليونانية والرياضيات الهندية وخلافها.
* لفت نظري في مقال مهاتير محمد، أنه شبَّه حال المسلمين حاليًا بحالهم في القرن الخامس عشر الميلادي من الحقبة المسيحية. قال: (خلال هذا القرن، فسّر بعض علماء المسلمين كلمة [اقرأ] في الآية القرآنية الكريمة، بأنها القراءة الدينية فقط..! ومن ثَمّ ركّز علماء المسلمين والأطباء وغيرهم على دراسة الدين فقط، مهملين بقية العلوم).؟!
* إذن.. وفي وقت واحد، بدأ هبوط العرب والمسلمين بفتاوى تقصر الاطلاع والقراءة على الأمور الدينية، وبدأ صعود الأوروبيين بالاطلاع على منجزات العرب والمسلمين في ميادين العلم والاختراع والأدب والثقافة والفنون عامة. في القرن الخامس عشر الميلادي، بدأت رحلة عربية إسلامية إلى الخلف وما زالت، وبدأت رحلة أوروبية نهضوية إلى الأمام وما زالت.
* من الواضح أنه لم تكن فتوحات العرب والمسلمين لنشر الدين فقط، ولكن لبناء حضارة تقوم على العلوم التي تطور حياة الإنسان، وتوفر له سبل المعرفة والعمل والإبداع، إلى أن وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدم في كافة المجالات، إلا أن الرفض المعرفي لما هو معرفة غير دينية، تسبب في انحطاط الحضارة الإسلامية وتراجعها منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، وها نحن نعيش نتائج هذه الظلاميات التي تلفنا من كل جانب باسم الدين الإسلامي البريء من جنايات الظلاميين طيلة ستة قرون.
* مما قال مهاتير محمد في هذا: (لا يبدو أنّ المؤرخين المسلمين لاحظوا سلبية فتاوى القرن الخامس عشر الميلادي حتى اليوم، ولا يبدو أنّهم راغبون في ربط تراجع حضارتهم بإهمال المعرفة غير الدينية، بينما اعترف مؤرخون أوروبيون، بأنّ خروجهم من عصور الظلام كان بفضل قراءتهم للحضارة الإسلامية وأصولها).
* لكي نفسر ما يجري بيننا من تطرف ديني، وانغلاق فكري، وقتل وتدمير وإرهاب، وتفكيك لبنى أمنية وسياسية وخلافه، يكفي أن نعرف أن (20%) من العرب والمسلمين لا يقرءون أبداً، وأن (15%) منهم يقرءون بشكل متقطع، ولا يحرصون على اقتناء الكتاب، فنحن نعيش ذات المرحلة الظلامية التي مرت بها أوروبا قبل عصر النهضة، ولن تنجلي ظلماتنا إلا بثورة تنويرية مضادة.
* إن ظلاميي هذا العصر، يمارسون الدور نفسه الذي مُورس على الأمة من قبل، ويفرضون جهالاتهم الظلامية من جديد، فهل يأتي فجرٌ جديدٌ، يُبدد هذه الظلاميات، ويمحق الظلاميين من حياة أمة النور الذي أضاء الكون ذات يوم..؟