ماذا نكتب وماذا نقول؛ وقد فقدنا الأب والسند والحصن. فقدنا الرمز الكبير (عبد الله بن عبد العزيز آل سعود)؛ تلك الروح التي كانت تلتقي عندها آمال ومنى وطموحات لا حد ولا عد ولا حصر لها..؟
تابعت مثل غيري من المفجوعين في فقد والدنا أبي متعب، مشاهد الصلاة والدفن، ثم لذت بعد ذلك إلى كفكفة الدموع، واعتصار آلام الحزن، ولملمة جراح الموقف العصيب.. رحمة الله عليك يا والدنا وكبيرنا وزعيمنا ومليكنا وقائدنا؛ الذي أوصانا في حياته فقال: (لا تنسوني من دعواتكم). ها نحن يا أبا متعب؛ لا نملك لك في ساعة الفراق الأليم؛ إلا الدموع والبكاء والدعاء، فمن كان في مثل قامتك وهامتك أبا متعب لم يمت، لأن اسمك مخلد، وذكرك ممجد، ومثواك في القلوب لا اللحود:
سلام وإن لم تغنِ عني تحيتي
عليك ودمعي واكف وصبيب
سأرعاك والنأي المفرق بيننا
كما كنت أرعى والمزار قريب
خيالك في عيني وذكرك في فمي
ومثواك في قلبي فأين تغيب..؟
يموت العظماء؛ وتبقى أعمالهم خالدة، و(عبد الله بن عبد العزيز)؛ واحد من عظماء التاريخ، الذين صنعوا الأمجاد لأممهم، فهو الزعيم المقدام؛ الذي غير الكثير من المسارات الصعبة في الداخل والخارج، وهذا ما يشهد به أعداؤه وأعداء بلده وشعبه قبل الأهل والأصدقاء، ففي فترة حكمه القصيرة؛ التي لم تتجاوز العشرة أعوام، والتي كانت فاصلة في تاريخ هذا البلد حقيقة، استطاع أن يضع المملكة على مسار تاريخي غير مسبوق في عدة مجالات، قضائية وتعليمية وسياسية وأمنية وثقافية، وترجم رؤيته النهضوية في مشاريع تنويرية عملاقة، لم تكن لتكون لولا ما تميز به رحمه الله؛ من جد وصبر وحزم وعزم، لا يتوفر إلا في قائد همام، يعرف ماذا يفعل.
دخلت المملكة العربية السعودية في عهد فقيدها الراحل (الملك عبد الله بن عبد العزيز) رحمه الله؛ معترك الحياة المعاصرة من بوابات كثيرة، جاء في مقدمتها التعليم الذي أولاه عناية خاصة، فوضع أسس إصلاحه، وأرسى مشروع الابتعاث الأكبر في تاريخ المملكة، ونشر الجامعات في عموم البلاد، حتى قفز عددها من سبع إلى قرابة الثلاثين جامعة، تتقدمها جامعة العلوم والتقنية (كوست) في ثول، ثم أدخل إصلاحات جوهرية لتحديث كثير من النظم القضائية الإدارية والأمنية، ودخل رحمه الله في حرب ضروس مع الفساد، لا تقل ضراوة عن حربه مع التطرف والإرهاب، الذي خاض غمارها على جبهتين داخلية وخارجية، فقهر الإرهاب، وأركس الإرهابيين.
إن الكلام على المنجزات التي تحققت لهذه البلاد وشعبها على أيدي مليكها الراحل؛ لا يمكن حصرها في مقال، فهي عظيمة وكبيرة، ويكفي أن نقول: بأن الراحل أجزل الله له الثواب، فتح الأبواب الكثيرة أمام أبناء شعبه دون تمييز ولا استثناء، في اتجاهات كثيرة؛ علمية ومعرفية وحضارية على عدة مستويات، ووصلت المملكة في عهده إلى عضوية الدول العشرين الكبرى المؤثرة في اقتصاديات العالم، وأضحت واحدة من الدول المحورية في القضايا الاقتصادية والسياسية إقليمياً ودولياً.
وكما عمل (عبد الله بن عبد العزيز) رحمه الله؛ على فتح الأبواب نحو العلم والتقنية والتحديث في عالم يموج بكل جديد في هذا الميدان، وشهدت المملكة في عهده نهضة تنموية شاملة، فإنه تصدى بكل شجاعة وبطولة؛ لعدد كبير من معوقات التحديث والتنمية، التي بدأت بالغلو والتطرف الفكري، ولم تنته بالفساد الإداري والمالي، ووقف بكل قوته المعهودة ضد المشروع الإرهابي المتدثر بالدين، الذي استهدف المنطقة العربية كلها، وكانت المملكة وشعبها من أولويات استهدافه، إلى أن سحق أدواته، وجفف منابعه، وكشف منابره ومحابره ومموليه ومؤيديه، ولم يقف رحمة الله عليه عند هذا الحد، بل لاحق الإرهابيين في المحيط العربي والدولي، وقاد مؤتمر جدة الشهير، الذي أشهر أعضاء التحالف الدولي لمحاربة داعش والقاعدة ومليشيات الإخوان الإرهابية في سوريا والعراق وغيرهما، وها هو العالم يشهد اليوم بحكمة (عبد الله بن عبد العزيز)، عندما حذر من هذا الخطر الداهم في وقت سابق، وها هي دول العالم قاطبة؛ تتنادى للتعاون من أجل سحق الارهابيين القتلة، تلبية لنداءات (عبد الله بن عبد العزيز) في عدة مناسبات.
اللهم ارحم والدنا وكبيرنا عبدك (عبد الله بن عبد العزيز)، الذي لبى نداءك فعاد إليك معززاً مكرماً..
اللهم الهمنا الصبر على فراقه، وأعنا لكي نسير على نهجه، وأن نختط ما خطه من (فتح الأبواب) و(قهر الإرهاب)، حتى لا نذل ولا نظل، ولا نهين ولا نهون.
اللهم أعن (خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز)، على حمل الرسالة، وأداء الأمانة، كما كان يريد الراحل عفا الله عنه، فسلمان حفظه الله، كان عضيده ورفيق دربه في رحلة التحديث والتجديد، وإرساء قواعد التنمية العملاقة في وطننا العزيز.
وداع مرّ:
وداعنا لك يا سيدي
ليس ككل وداع
ليس فيه بكاء..
ولا حتى عزاء..
لا صياح ولا نياح
ولا بكاء..
الصمت يكفينا
إذا غاب الحليمْ
وإذا فقدنا الحكماء
بكاؤنا وعزاؤنا.. فيك يا سيدي
هو الحب.. الحب..
لأنك.. كنت وما زلت في القلبْ
ما بكاؤنا..؟ ما الدمع؟
إذا ضم هذا القبر رمز الوفاءْ
ما عزاؤنا.. ما حزننا؟
إذا غاب عنا كريم الكرماءْ
لن نبكيك (عبد الله)..
فنحن لا نبك النبلاءْ..