الكثير كتب وتحدث عن وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- من حيث الأثر الكبير الذي سيتركه غياب مثل هذه الشخصية الاستثنائية على المشهد السياسي والفكري، غير أن من الأهمية بمكان قراءة هذا الحدث الجلل وانعكاسه على المشهد الفكري في داخل البيت السعودي، فقد جاءت وفاة الملك -رحمه الله- في لحظة تاريخية مفصلة في تاريخ المجتمع السعودي وذلك من جهتين:
الأولى: جاء هذا الحدث بعد سلسلة طويلة من الأحداث التاريخية التي عصفت بدول الجوار، من الثورات وأعمال العنف الرهيبة التي كنت تنقل للداخل السعودي بالصوت والصورة وفي لحظتها المباشرة، ومن الطبيعي جداً أن تترك هذه الأحداث أثرها على أمزجة الشباب وأفكارهم.
الثانية: أن هذا المصاب جاء في وقت يتواجد فيه على تخوم الحد الشمالي للمملكة عدو شرس، والمتمثل بعصابات داعش، والذي يضاعف الأزمة أن هذا العدو يستخدم في حربه ضد هذا البلد -بكل أسف وأسى- بعض أبنائه الذين باعوا أنفسهم بثمن بخس لقادة هذه العصابة، وهذا يعقد المشكلة ويضاعفها.
هذه المعطيات والظروف تحصل لأول مرة في تاريخ المملكة، ولهذا فهذا الحدث -بالنسبة لأعداء هذه البلاد- فرصة تاريخية لا يمكن تعويضها، فيجب استثمارها إلى أقصى درجة ممكنة، كل واحد من هؤلاء الأعداء يترقب وينتظر هذه اللحظة، بل كل أحلامهم التدميرية مؤجلة في انتظار هذا الحدث، ومن يقرأ في وسائل التواصل الاجتماعي ويتابع بعض الحسابات سيدرك بلا تردد أن الكثير من هؤلاء الأعداء قد أتموا وضع السيناريوهات المختلفة لما بعد وفاة الملك رحمه الله، وكان أقلهم تشاؤماً هو من يتوقع أن يكون هناك مرحلة انتقالية ريثما ترتب الأسرة المالكة البيت من داخله وتتفق فيما بينها على اختيار الملك، وهذه المرحلة يمكن -بظنهم- استثمارها في هز هذا البيت ونشر الرعب والإرجاف بين الناس لعل وعسى، لكن بحمد الله خابت كل هذه الظنون الآثمة ومرَّ هذا الحدث الجلل بهذه الانسيابية المدهشة، فبارك المجتمع بكل أطيافه هذه النقلة، بل وفرحوا بهذا العبور الراشد في انتقال السلطة.
ولقائل يقول: وماذا بعد؟.. فأقول: هذه اللحظة مهمة لنا أكثر من أهميتها لهم، إنها لحظة اختبار لمنسوب الولاء لهذا البلد، ومعرفة مقياس درجة التأثر بأعمال العنف المجاورة، ولأن النتيجة كانت بحمد الله لصالحنا، واستحقها الشعب السعودي بالدرجة الكاملة، فيجب علينا إذاً أن نجعل من هذا اليوم كيوم الأحزاب لما كبت الله الأعداء ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة لأصحابه، كانت هي بداية لتدشين مرحلة جديدة: «الآن نغزوهم ولا يغزونا». ما أعنيه هنا أنه يجب أن نستثمر هذه الفرصة التاريخية إلى أقصى درجة وأن نتجاوز -من هذا اليوم- مرحلة المدافعة ودفع الشبه والتترس في الخنادق إلى وضع مبادرات وإستراتيجيات وطنية تنزع فتيل الغلو من جذوره، فيتربي الشباب على الفطرة الصحيحة والتدين المعتدل، وتنمو لديهم قيم المواطنة الحقيقية، عندها سنقطف الثمرة ونتفيأ ظلال الشريعة ويتربى الشباب حقاً على المنهج السلفي الصحيح.
أهم ما يجب استثماره في مثل هذه الحالة التأكيد على قضية مهمة جداً، وهي إعادة تصحيح مفهوم الولاية الشرعية في أذهان بعض الشباب المستلبين فكرياً، وتأهيلهم من جديد عبر برامج عليمة صحيحة في المدارس والجامعات، وإذا كنا مازلنا ندفع إلى اليوم الفواتير الضخمة نتيجة لغياب مفهوم الولاية الشرعية عن بعض شبابنا فإن هذا هو أوان المعالجة، ومثل هذا الحدث مهم جداً في تثبيت هذه المعاني المهمة، ومن أهم ما يتعلق بالولاية الشرعية تعليم الناشئة والشباب مفهوم البيعة الشرعية، وأنه ليس من شروط صحتها مبايعة عامة الناس للإمام بل يكفي أن يقوم أهل الحل والعقد بالمبايعة وينوبون بذلك عن الناس، كما نص على ذلك عامة أهل العلم، ونقل الإجماع غير واحد من العلماء كالنووي وغيره.
كما أن هنا مسألة مهمة يجب أن يربى النشء عليها وهي: من هم أهل الحل والعقد الذين يبايعون الإمام نيابة عن الأمة؟! هذه المسألة ليست متروكة لأمزجة الناس وأذواقهم، فواحد يقول: لا أعتبر هؤلاء من أهل الحل والعقد وآخر يقول: بل أنا لا أعتبر إلا هؤلاء. ليس الأمر هكذا، ومحال أن تكون شريعة الله نهباً للأمزجة والأذواق، فأهل الحل والعقد هم أهل الشوكة في المجتمع كما نص على ذلك عامة الفقهاء والمجتهدين كابن تيمية وغيره، وأهل الشوكة في مجتمعنا هم من لهم المنزلة والمكانة عند عامة من حولهم، كأمراء القبائل والعشائر والأمراء والوجهاء والعلماء، وغيرهم من سادة الناس، وهذا فيه معنى عظيم قد لا يفطن له الكثير من الناس، وهو أن الشريعة جعلت مناط البيعة عند هؤلاء حتى لا يفلت زمام الأمر، وحتى إذا بايع هؤلاء الإمام بايع من تحتهم ممن يثق بسداد رأيهم ورشدهم، وهذا يؤول إلى تحصيل أهم مقصد شرعي من مقاصد الولاية وهو اجتماع الكلمة وعدم التفرق.
أمر آخر: هذا أوان أن يتعلم الناشئة والشباب مقتضيات البيعة الشرعية، التي من أخل بها فقد أخل بعروة من عرى الشريعة، ويتعلموا أنه ليس لآحاد الناس أن يتدخلوا في تحديد الحاكم، فليست الولاية قميصاً يلبس ويخلع، كل يتكئ على أريكته ويقول: أنا لم أبايع فلاناً وبايعت فلاناً، هذا العبث حدث في الإسلام وعدوان على الشريعة، وما أحسن فقه إمامنا أحمد لما سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»؛ ما معناه؟ فقال: «تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون كلهم يقول هذا إمام فهذا معناه».. فهنا نلاحظ رسوخ الفقه لدى إمامنا رحمه الله، فلم يترك الأمر لآحاد الناس، بل جعله موكول لما يمكن أن نسميه اليوم: العقل الجمعي للمجتمع، فإذا بايع أهل الشوكة الإمام وأشار عامة الناس إليه بالولاية فحينئذ نقول إنه إمام انعقدت له الولاية الشرعية فليس لأحد أن ينزعها منه، أو ينازعها إياه.
كما أن أهم مقتضيات الولاية التي يجب أن يتعلمها الشباب مقتضى السمع والطاعة، فكل ما يأمر به -في غير معصية لله تعالى- فطاعته دين ندين الله به، وعمل نتقرب به إلى الله كما نتقرب بالعبادات من الصلاة والزكاة والصيام، ومن المهم هنا تذكيرهم بالأحاديث التي أوجبت هذه البيعة وعظمت خطرها من مثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات مِيتة جاهلية» رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» رواه مسلم.
كما يعلم الشباب أيضاً أن عقد الولاية لولي الأمر عقد لازم في كل الأحوال، لا يخضع للظروف الاقتصادية ولا للتقلبات الدولية، ولا لأحوال دول الجوار واستقرارها، ولا للأهواء ولا للأمزجة، بل هو كما قال عبادة -رضي الله عنه-: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويُسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه برهان.
برأيي هذه اللحظة مهمة جداً في تصحيح الفكر وترشيد الوعي وتوجيه البوصلة، ولا يجوز لنا أن نؤخر استثمارها، ولو فعلنا ذلك يمكن أن نقول بعدها لأهل الغلو والإفساد: الآن نغزوهم ولا يغزونا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أسأل الله أن يغفر للملك عبدالله وأن يرحمه برحمته الواسعة، وأن يبارك لنا في خلفه، والله أعلم وأحكم.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.