إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقه لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي الرب: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.. في فجر يوم الجمعة 3 ربيع الآخر 1436هـ، أفاق العالم الإسلامي على حادث جلل وخطب دهم، إذ فقدت الأمة المسلمة أهم قادتها في تاريخها المعاصر، حين فجعت -قادةً وشعوباً- بوفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، الملك الذي ترك بصماته واضحة في العالم الإسلامي، رحل رحمه الله والأمة الإسلامية أحوج ما تكون إلى مبادراته وحكمته وبصيرته.
كان رحمه الله امتداداً لمسيرة ثرة في خدمة الإسلام والمسلمين، ابتدأها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وسار عليها أبناؤه من بعده.. مسيرة مباركة تأسست من أول يوم على منهج مبارك، دولة تحكم بشرع الله، وتنقاد لهداه.. تنصر دينه، وتحرس قضاياه، وتسعى لوحدته، وتعزيز مواقفه على المستوى الدولي.
تجلى هذا الجهد المبارك في مشروعات غير مسبوقة.. ملأت فراغاً كبيراً في الساحة الإسلامية، ففي الجانب العلمي أنشأت المملكة الجامعات العملاقة التي فتحت أبوابها لأبناء المسلمين، ليتزودوا بالعلم والمعرفة، ويعودوا رواداً لمجتمعاتهم ومنارات علم نافع فيها.
واحتضنت المملكة المجامع الفقهية التي درست النوازل المهمة للمسلمين، وقدمت فيها الحكم الشرعي الذي يراعي مقتضيات العصر، وفق أصول الإسلام وثوابته وقواعده. ولما كان القرآن دستور هذه البلاد، فقد كان غير بعيد على قادتها إنشاء أكبر مجمع لطباعة المصحف الشريف، وترجمة معانيه إلى مختلف اللغات، ليصل إلى كل مسلم بلسانه.
وإدراكاً منهم لشرف المكان الذي حباهم الله إياه، حين جعل هذه البلاد قبلة المسلمين ومنتهى آمالهم، فقد قامت المملكة بتوسعات متتالية للحرمين الشريفين.
ونحن اليوم نشهد أكبر توسعة في تاريخ المسجد الحرام، وهي التوسعة التي أمر بها الملك عبدالله -رحمه الله تعالى-، مما يتيح لثلاثة ملايين مسلم الصلاة حول الكعبة المشرفة بيسر وسهولة، ونرى القفزة الكبيرة في مجال نقل الحجاج بشبكة القطارات السريعة والخدمات المتواصلة في الحرمين والمشاعر المقدسة.
ومنذ تأسيس المملكة، وهي حاضرة في قضايا المسلمين، تذود عنهم في المحافل، وتقدم الدواء والغذاء لمحتاجهم، وترعى المكلومين منهم، وتضمد جراحهم عبر هيئات الإغاثة الخيرية التي شملت برامجها كل مسلم يتطلع إلى يد رحيمة تحنو عليه.
وطمح المسلمون إلى وحدة إسلامية تجمع شتاتهم وتستعيد هيبتهم، فكان الغيورون من أبناء الأمة رواد دعوة التضامن الإسلامي، وبرز هذا الأمل الكبير في رعاية المملكة لتأسيس رابطة العالم الإسلامي ومنظمة التعاون الإسلامي، ورعايتها لعدد من المرافق الإسلامية الكبرى كالبنك الإسلامي للتنمية، ووكالة الأنباء الإسلامية، وغيرها من الكيانات التي تسهم في تحقيق آمال المسلمين العريضة في الوحدة الإسلامية الجامعة.. فيما سبق وغيره كان للملك الراحل السبق والسعي المشكور.
فقد رعى رحمه الله العديد من المصالحات التي عبرت عن اهتمامه البالغ بالشأن الإسلامي. رعى رحمه الله اتفاق المصالحة بين الأطراف الفلسطينية التي التأم شملها في جنبات الحرم الشريف، ودعا الساسة العراقيين إلى التباحث في الرياض في حل مشكلة الشعب العراقي الشقيق، ودعم جهود المصالحة في الصومال واليمن.
وحين تأمل رحمه الله فرقة المسلمين واختلافهم وتناحرهم أدرك العثرات التي تكبو بسببها الأمة المسلمة، وأن ثمة من يسعى في تمزيقها وبعثرة جهودها، وشغلها بالفتن الداخلية عن القيام برسالتها الحضارية في الشهود على الأمم، فدعا رحمه الله إلى ما يجمعها على ثوابت الدين ومحكماته، وترشيد اختلافها، والتعالي عليه بتعميق الحوار وتطوير آليات التعايش والتراحم بين أمة المسلمين؛ أمة الجسد الواحد {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.
وفي مواجهة دعوات الصراع الحضاري دعا رحمه الله إلى الحوار الحضاري بين أتباع الأديان. فكانت مبادرته التاريخية مثار إعجاب العالم الذي رأى في كلمتيه في مؤتمر مكة المكرمة ومدريد حنكة زعيم يعيش مشكلات عالمه، ويسعى لحلها انطلاقاً من اعتزازه بدينه، وإيمانه بقيمه التي تكرس السلم والأمن بين المجتمعات البشرية.
وقد توج رحمه الله مبادرته بتأسيس مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في فيينا، ليكون مركزاً جامعاً لاستثمار جهود عقلاء العالم ورؤاهم في تخفيف الأزمات ومواجهة الكوارث، والتضامن فيها وفق أسس إنسانية أرساها الخالق تبارك وتعالى في البشرية عبر الفطر السوية ورسالاته الإلهية.
وقد واجه الملك عبدالله بشجاعة وحكمة ظاهرة الإرهاب المتنامية حول العالم، ونجحت المملكة في تقديم الأنموذج الأفضل في التصدي لهذه الظاهرة، والقضاء على بؤر الإرهاب، وتجفيف منابعه، وكشف فساد طريقته، وتنكبه لهدي شريعة الإسلام السمحة، فصان شباب المسلمين عن أوهامه وظنونه، وأبان لهم زيف دعواه.
لقد كان رحمه الله ينشد العدل والتراحم، ويبحث عن صوت العقل والحكمة في مختلف الأحداث المؤلمة التي مرت على هذه الأمة، فكان يدرك مسؤولية المملكة عن حاضر العالم الإسلامي ومستقبله من خلال رؤية إستراتيجية ثاقبة.. إن الملك الراحل رحمه الله كان سند الرابطة في المبادرات والمشروعات والإنجازات التي قامت بها، وكان يحثنا على المبادرة إلى إقامة المناشط والمؤتمرات واللقاءات والزيارات داخل العالم الإسلامي وخارجه، ويطالبنا بتحسس أحوال المسلمين وحوائجهم، ومد يد العون لهم.
وعزاؤنا في الملك عبدالله رحمه الله في خلفه الصالح خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، فقد أكد في خطابه للشعب على التمسك بنهج سلفه الكرام، ليؤكد للأمة المسلمة ما يتطلعون إليه، وأنه يبتدئ عهداً مفعماً بالآمال والتطلعات نحو تحقيق المزيد من الإنجازات على الصعيد الداخلي والخارجي.
إن الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله ليس غريباً عن مناشط العمل الإسلامي، فهو من أهم داعميه، وله سجل مشهود في رعاية العمل الخيري، وتحقيق الإنجازات والتطوير وتحقيق ما يتطلع إليه المسلمون في شخصه الكريم.. رحم الله الراحل الكبير خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وأعان خلفه الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود في أداء المسؤولية، ووفق إلى الخير ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود، وولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي - الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي