كان المجتمع الأندلسي خليطاً من الأعراق والأديان والفلسفات، كما كان دوحة زهت بالفقه والأدب والفلسفة والشعر والنثر، والصراع والاستقرار، والحكم الرشيد وغير الرشيد والتعاون والتآمر، والتسامح والتعصب.
هو ذلك المزيج من كل ما ذكر ومن ذلك المزيج الرائع شع كثير من الضوء الذي اقتبس جله من الشرق ليتغذى به الغرب القريب منه، ومنه كانت بداية النهضة الأوروبية التي سادت وما زالت على عالمنا المعاصر.
لقد أومأ إلى ما شاب ذلك العصر من تسامح الدكتور عباس الجراري في إحدى مقالاته الرائعة غير أن التسامح وحده لم يكن هو المهيمن على ثقافة وسلوك أبناء تلك الجزيرة الإسلامية الإبيرية، فكانت هناك تناقضات ذات طابع أيديولوجي أخرى ذات منعطف عرقي، وغيرها ذات مطمع مادي فحسب، وإن كان الغالب أن المطمع غالباً ما يرافق كل ما عداه، من قول ظاهر.
لقد تم فتح الأندلس من قبل المسلمين عرباً وبربراً بل وبمساعدة من بعض المسيحيين الذين كانوا على الضفة الأخرى من البحر، وتعايشت القبائل العربية والبربرية الوافدة على أرض الأندلس، وذات الأعراق المتباينة فيما بينها وفيما بينها وبين الآخر. وتوسع ذلك التسامح مع التزاوج الذي تم بين سكان الأندلس الأصليين ونظرائهم من الوافدين عرباً وبربراً، وبعد برهة من الزمن تحركت المطامح لتحرك النعرات الثقافية بداية ثم العرقية ولاسيما بعد إضافة عرق جديد يتكون من أبناء الأندلس الأصليين الذين أسلموا أو أولئك التي بعثوا على معتقداتهم، ومع العرق المزيج بين العرب والبربر وأبناء الأندلس الأصليين الذي تكون بعد أجيال من التزاوج المختلط.
لقد كان التباين العقدي والمذهبي ظاهراً مما دعا ابن حزم أن يؤلف كتاباً أسماه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) وكتابه الذي أسماه (المحلي) والذي أورد فيه آراء فقهية سائدة ثم رأيه الظاهري فيها. لقد جلب الأمويون معهم مذهب الأوزاعي فساد، وما لبث المذهب المالكي أن أزاح مذهب الأوزاعي ليستمر من الدهر ما شاء الله، غير أن الساحة المذهبية لم تخل من روافد مثل الظاهرية والمعتزلة والصوفية والمذاهب الفلسفية الأخرى. ولم تنشأ حروب كثيرة بين السكان الأندلسيين لأسباب مذهبية لكن قد يكون الفساد في السلوك ومظاهر البزخ واللهو إيذاناً بدخول جحافل المرابطين. مع أن الأمر لم يخل من التراشق لأسباب مذهبية.
أما الأعراق والنعرات فكانت ضوء نار أزكتها أعواد الأعراق، وكانت الحرب أولها الكلام. وقد كان التهيؤ لذلك يظهر في النثر وفي الشعر، حتى وإن كان على شكل نقد مباشر، كانت الساحة تسمح بظهوره بين الفينة والأخرى، فها هو أبو حفص الزكرمي قد أغضبه رسول أحد الولاة عندما طالبه بمبلغ مستحق عليه، وقد كان يهودياً: