رجل وقور، هادئ، وديع، يتكلم بهدوء، ويتحرك بتؤدة، لا تحسبه يغضب أبداً لفرط هدوئه، إذا تحدث أوجز، وإذا استمع أنصت لما تقول، لا يمكن أن يقاطعك أبداً. عليه سمت رجل الدولة، وهذا ليس بغريب عليه فقد تولى عدة مناصب وزارية آخرها وزارة التعليم العالي.
هذا هو الانطباع الذي خرجت به بعد لقائي مرتين بمعالي رئيس جامعة عدن الأستاذ الدكتور عبدالوهاب راوح. كان اللقاء الأول عندما اصطحبني إليه نائبه للشؤون الأكاديمية الصديق الدكتور أحمد علي الهمداني. دخلنا عليه من دون موعد، وكان في مكتبه عدد من أصحاب الحاجات، فشعرت بالحرج، ولكنه بلباقة اختصر كل شيء، وترك مكتبه وجلس معنا، ودار حديث عن سمعة جامعة عدن المتميزة، وإقبال الطلاب السعوديين عليها، وخاصة كلية الطب، وعن تطور العلاقات الأكاديمية بين الجامعات السعودية وشقيقاتها اليمنية في إطار الشراكة التي تتحقق بين الوطنين الجارين في كل المجالات.
ولما كان وصولي عدن في أجواء إقامة الجامعة لندوة رد اعتبار لرائد النهضة الصحفية والثقافية في عدن الأستاذ محمد علي لقمان (1898 - 1966م) الذي طمس النظام الماركسي السابق تراثه وذكراه، فقد حدثه الدكتور الهمداني عن ما بحوزتي من وثائق ومراسلات يعود تاريخها لسنة 1932م بين أحمد باكثير ومحمد علي لقمان تكشف عن جوانب خفية من حياة لقمان لم تتطرق لها موضوعات الندوة. قال لي: نحن نريد منك محاضرة مستقلة، فما لديك من وثائق يستحق أن نحتشد لها وحدها، ونحن ندعوك في يناير أو فبراير أفضل أوقات عدن الجميلة لتتحدث عن ذكريات ذلك الزمن الجميل!
ورغم محاولتي الاعتذار إلا أنه أصر على دعوتي لطعام الغداء معه بفندق ميركور على البحر الذي تملكه شركة بن لادن السعودية، وكان معنا الصديقان الدكتور أحمد الهمداني والدكتور علوي عبدالله طاهر والأستاذ سعيد أحمد جناحي. ودار حديث هادف عن ندوة محمد علي لقمان الذي تنصفه جامعة عدن وتعيد له اعتباره على المستوى اليمني والعربي. ثم جمعني الصديق الدكتور أحمد الهمداني بعدد من المثقفين كان في مقدمتهم الدكتور علوي عبدالله طاهر الذي ربطتني به من قديم أعماله ومقالاته التي أعجبت بها ورسالته بشأنها، وتعرفت لأول مرة على الأستاذ سعيد جناحي صاحب المؤلفات المعروفة في التاريخ السياسي لليمن الحديث، وأهداني الدكتور الهمداني عدداً كبيراً من مؤلفاته في الأدب والنقد التي تقترب من ثلاثين كتاباً. وأثار في نفسي شجناً قديماً بما كتبه عن الأدب الروسي الإنساني وعن تشيكوف على وجه الخصوص ساعده على ذلك اتقانه للغة الروسية التي درس بها. واستعدت بذلك ذكريات إعجابي بتشيكوف وتولستوي دوستويفسكي ويوشكين أثناء دراستي العليا بالولايات المتحدة الأمريكية وما كتبته عن تشيكوف بالعربية والانجليزية وهو ما أتمنى أن أنشره يوماً في كتاب.
وقد أعجبت بالمجهود المخلص الذي بذله الدكتور الهمداني والفريق الذي عمل معه في الإعداد لندوة محمد علي لقمان، ورغم أنه لم يتسنَ لي إلا حضور لقاء واحد فيها لارتباطات مسبقة حالت دون ذلك، إلا أنني اطلعت على معظم الأبحاث التي وردت من كافة أنحاء اليمن والعالم العربي والإسلامي، وصدرت جميعاً في مجلدات فضلاً عن ما جمعه د. الهمداني من أعمال محمد علي لقمان المجهولة والضائعة وإصدارها في مجلد فاخر على نفقة ابنه المهندس ماهر محمد علي لقمان.
وفي الليلة اليتيمة التي حضرتها من ندوة محمد علي لقمان شممت رائحة التغريب من بعض الأوراق، ومحاولة إلباس محمد علي لقمان ثياباً غير ثيابه، وصبغه بألوان غير ألوانه، وهو العروبي الإسلامي المستنير. وقد أثارني أحد بقايا المهووسين بالفكر التغريبي أو اليساري عندما وقف مطالباً بعدم ربط محمد علي لقمان بشخصيات التنوير الإسلامي أمثال محمد رشيد رضا وشكيب أرسلان وغيرهما. ورأيت في ذلك تجنياً على لقمان ومغالطة تاريخية لا يمكن أن أسكت عليها، فطلبت أن أكون آخر المتكلمين. وحمدت الله أن كان معي صورة لقصيدة لمحمد علي لقمان بخطه، فلما صعدت إلى المنصة قلت لهم إن محمد علي عاش حياته مجاهداً من أجل وطنه وأمته، ينتمي في فكره ومنهجه لحركة التنوير الإسلامي وأعلامها الكبار في القرن العشرين أمثال رشيد رضا وشكيب أرسلان والثعالبي وعبدالقادر الجزائري وغيرهم من المجاهدين الذين نزلوا ميناء عدن وحلوا ضيوفاً عليه. وقلت لهم إن لقمان عاش حياته محذراً من التغريب الذي يرتبط بالولاء الفكري للاستعمار، واسمعوا قوله من قصيدة بخط يده يقول: