| |
لندن خريفاً 1 - 2 د. فوزية عبد الله أبو خالد
|
|
كمين المكان لندن هي سادس مدينة بعد جدة والرياض وبيروت وبورتلاند أوريجن ومانشستر التي أشعر أنني أعرفها مغمضة العينين من شمالها إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها، فأعرف شوارعها الرئيسية وسككها الخلفية وأقصر الطرق إلى جامعاتها ومكتباتها ومتاحفها ومعارضها التشكيلية ومقاهيها وأسواقها الفارهة والشعبية، كما أعرف خطوط يدي، ومع ذلك فإنها من أكثر تلك المدن التي عشت فيها أو تكررت زياراتي لها على مدار عمري وما زلت لا أعرفها. لذا فإن باستطاعتي ضم تجربتي مع لندن إلى مخطوطة كتابي (كمين الأمكنة) الذي كنت قد نشرت معظم مادته بجريدة اليوم قبل عدة أعوام؛ لأن هذه المدينة تعبر بامتياز عن مزايا الكمين الدنيوي الذي تنصبه لنا الحياة على مفترقاتها فندخله بأقدامنا طوعا أو كرها أو فضولا أو بحثا على أنه مجرد مكان مؤقت وبأننا سنكون فيه مجرد عابرين نمر به مرور الكرام، فإذا بنا نتورط في طرقاته السافرة أو السرية ونغوص في تفاصيل كمائنه الأصغر التي لا تكف عن الانقسام على نفسها ككروزمات نشطة تسوق علينا سحر الجاذبية الأرضية لنمعن في الغوص داخل متاهة الكمين. كمين الزمان تقول صديقتي تلك التي تكتب برومانسية وكأنها على شفا عشق إن مدينة لندن مثل مشروع الكوكاكولا لا يمكن تناولها إلا محتدمة بالبرودة. وتقول الممثلة البريطانية الملتزمة بقضايا حق الشعوب في الجمال والعدل، فينيسيا رد جريف عن لندن في كتاب مذكراتها من الحرب العالمية الثانية أنها المدينة الوحيدة التي يشع ضبابها الرمادي بألوان قزحية. ويذكر الشاب المبدع محمد علوان في روايته (سقف الكفاية) في مفارقة ساخرة له فيها فضل الفكرة ولي فيها تبعات الصياغة، أخذ الإنجليز فلسطين وسلموها للمشروع الصهيوني بوعد بلفور بينما أعطوا العرب كمقابل زهيد بعد نصف قرن من ذبح الحلم العربي في الحق الحرية (شارع إديجورد رود) أو ما أسميه (شارع الشيشية ومطاعم مروش)، ليصولوا ويجولوا فيه تلك الصولات والجولات ذات الرايات البيضاء والعباءات السوداء. أما فدوى طوقان في مذكرات رحلتها الجبلية وأمجد ناصر في اقتناصاته لخبط الأجنحة فقد كتب كل منهما على اختلاف خلفية تغريبته أسئلة متفاوتة التوقيت عن كنه المكان في علاقته بدورة الأزمنة. فحيث نستطيع أن نسمع دقات ساعة بيج بن الشهيرة بوقعها المنضبط الرتيب الرهيب تنبعث من رسائل فدوى أثناء إقامتها المؤقتة الثانية في الغربة البريطانية، فإننا لا نسمع إلا هدير نهر التيمز ورفيف أجنحة الحمام في الطرف الأغر وتعدد لغة التأوهات في الأحياء الملونة تصخب في حنجرة أمجد. في لندن بين كمينين كان عدد من كتاب بريطانيا والعابرين بمرافئ المانش أو بحر الشمال ومنهم جين أوستن ويوجين أونيل وسومرست موم ودي إتش لورنس وجان جيينه. قد كتبوا الجزيرة البريطانية ومدينة لندن ماطرة موحلة معطرة منكسة متبخترة ممشوقة أو منحنية في كل الفصول إلا فصل واحد. أما الصحافي البريطاني وروبرت فيسك فقد كتب من بريطانيا وخارجها أو من البؤر التي لها يد في إشعالها ما يكفي لكشف التباسات ملامح الداخل. وها أنا في فصل يخالف كل خبراتي السابقة مع هذه المدينة، وعلي أن أواجه لندن في فصل الخريف فهل جاءت زيارتي باقتراب نهاية العام 2006م لتلتقي صدفة مع غليان التوقيت السياسي الذي يصادم بلير بمخاطر (التبعية الذيلية) لأمريكا في سياستها الخارجية كما وصفتها صحيفة التايم على صفحتها الأولى يوم 28-11، أو أنها جاءت بتواطؤ خفي مع الانكفاء الجغرافي البريطاني من تلك الدولة الاستعمارية التي لا تكاد تغيب عنها الشمس إلى دولة بريطانيا اليوم التي بالكاد تشرف عليها الشمس خاصة فيما لو تحقق سعي اسكوتلاندا وويلز للاستقلال. كانت روحي تتحول إلى أجنحة تطير وتحط بي كما كتبت مرة طفول العقبي على حافة برزخ أخلاط المشاعر بين لندن البهية ببريق قميصها الخريفي المذهب يأسر الأبصار برهجة ما يتصاعد عن فتحة صدره من مختلف التنهدات لمختلف الألوان والأعراق على اختلاف روائح العرق وتعبيرات الجسد ولكنات الكلام، وبين لندن تلك العاصمة المضببة بآثام سياستها المنحازة ضد حق الشعوب في تقرير مصائرها من أصغر دول الكمنولث إلى فداحة تحالفها الأمريكي في الحرب على العراق، بين لندن المتوهجة بتعدد الثقافات وتنوع التيارات الفكرية والفنية وبأضواء المسرح الجاد والحفلات الموسيقية الكلاسيكية والحديثة من الأوبرا إلى العزف النازف بجنون لفرقة جورج مايكل في ساحة لاستر وبين لندن المثقلة بالاستثمارات الأجنبية وبأهواء الصحافة الصفراء وبالخوف الذي توزعه على الطرقات اليومية بالمجان كاميرات المخابرات المبثوثة في كل مكان من عربات قطارات (الأندروقراوند) إلى حرير السحب في سماء لا تتوقف عن البكاء. كم كان بودي لو أنني أستطيع التمتع بعين سياحية بحتة دون أن تلاحقني أشراك الكمين في زيارتي هذه إلا أنني على غير براءتي عندما زرتها في السبعينات لا أملك إلا أن أكتب بخطواتي كلما توغلت في تلك المدينة المتعرية بفعل الخريف السياسي والمناخي معا والمتوشحة بزينة المظاهرات العمالية والطلابية وحرية احتجاج الأقليات وكأنها بعض زينها للميلاد، على الرغم من التوجس المضمر ذلك السؤال القلق عن طبيعة ذلك الخيط الخفي الذي ما زالت لندن تستطيع أن تربط على حبله كل تلك المتنافرات من مباهج وأحزان الأضداد وأضيف عليه سؤال إلى متى يمكن أن يستمر التعايش بين الحرية ومحاربتها دون أن يتهاوى جسر لندن، كما تحذر من ذلك أناشيد الأطفال. أما طبيعة المهمة التي حملتني إلى لندن في عز الخريف ومشاهدات تلك الرحلة التي انتهت بي على عكازين كعادتي السنوية في الفوز بأوسمة الجراح في مسابقات جموح أحصنة الخيال فهذا ما سأتناوله الأسبوع القادم رحمة بفضول القراء.
Fowziyah@maktoob.com |
|
|
| |
|