(1)
الادّعاءُ بتمثيل (الإسلام الصحيح) إشكاليّةٌ لا تخلو من أجندات سياسيّة غايتها استغلال شرعيّة (الصحيح) وما توحيه الكلمة من شرعيّة وتأثير، وفي المقابل نزع (الصحيح) عن الطرف / الأطراف الأخرى (المزوّرة / الباطلة)؛ والحقُّ هو ادّعاء لا يصمد في الواقع والوقائع إلاّ من باب الفئويّة والطائفيّة تحت أجندة مقولة: (الفرقة الناجيّة) وادّعاء امتلاك الحقيقة لفئة من الناس وإبعادها على الفئات الأخرى، فالحركات الدينيّة السياسيّة المتطرّفة تدّعي تمثيل الإسلام الصحيح، وتتّهمُ الأنظمة العربيّة بالتفريط بالإسلام الصحيح وأنّها تتدّعي إسلاماً مزوّراً باطلاً، والحركات المعارضة المعتدلة في ادّعائها كذلك تدّعي: (تمثيل الصحيح)، والأنظمة العربيّة - الإسلاميّة تدّعي: (تمثيل الصحيح) وأنّ الأطراف الأخرى تشوّه الإسلام الصحيح؟ وهكذا دواليك، ولكَ في خضم ادّعاء الأفرقاء أنْ تتساءل: (مَنْ يمثّلُ الإسلام الصحيحَ؟) وهل الإسلام كديانة بحاجة إلى من يمثّلها؟ علماً بأنّ التمثيل يقتضي الإنابة عن صاحب الملكيّة! ومرّة أخرى ودائماً أعود إلى الدلالة الكبرى (ويكون الدين كله لله) فلا ملكيّة لأحد على الدين، فلا تبتعد عن أبعاد دلالات: ما يعنيه التمثيل؟ وأبعاد ما يعنيه الصحيح؟ وهذا التساؤل وأبعاده يقتضي وجود: (إسلام واحد - صحيح) وآخر (إسلام متعدّد - مزيّف / بقيّة النماذج / الآخرون)، وهو اقتضاء لا يعبّر عنه الواقعُ؛ وحينما يكون هذا الادّعاء من ضمن مرتكزات خطاب إدانة الإرهاب الذي يُراد له أن يواجه الإسلام السياسي المتطرّف، فإنّه في واقع الأمر يتورّط بالقفز فوق الواقع، ويمنحُ الإسلام السياسي الحجّة عينها والمنطق عينه، الذي يستخدمه حجّة، ويبقي على حال الجمع التام بين الدين والسياسة، لأنّ العلّة في توصيفه كائنة فيمن يمثّل الإسلام الصحيح؟ وليس العلّة في ادّعاء التمثيل نفسه؛ ولأنّه يحوّر مشكلة الجمع بين الدين والسياسة إلى مشكلة تعريفهما ومشكلة من يملك حقّ تمثيلهما معاً مجتمعين.. وهكذا تحوير يفضي إلى الابتعاد عن المشكلة الرئيسة باختلاق مشكلة ليس لها وجود في الواقع، وهو ما يأخذنا إليه السؤال الذي يدافع عن النفس عبر الافتراض وعبر الملكيّة.. فمن يملك حقّ اعتبار الديانة ملكيّة خاصة بحاجة إلى ممثّلين ووكلاء أصليين لمحاربة زعم وكلاء مزوّرين؟ هل المسألة والمشكلة الكبرى في الوكيل والممثل المزيّف أم المشكلة في وجود الوكالة التمثيليّةصلاً من عدم وجودها؟
(2)
تتردّدُ بعد أيّة عملية إرهابيّة مجموعة من ردود فعل خطابيّة عربيّة وإسلاميّة - تكادُ لتكرارها وشيوعها أن تأخذَ شكل خطاب إدانة عمومي - تنصبُّ أكثرها في خانة الدفاع عن النفس، مغلّفةً بحجّة الدفاع عن الإسلام أيضاً (ومرّة أخرى وها هنا أيضاً تجد ضبابيّة عن أيّ إسلام تدافع؟)، ولا تبلغُ الحجج والدفوعات إلى مدى يُنتج أثراً بل تبقى في مداها الكلاميّ، بحيث إنّك لا تكاد ترى تعديلات أو تغييرات وإصلاحات سياسيّة تعالج البيئة الحاضنة والمنتجة لهؤلاء الإرهابيين، والقاعدة الشعبيّة التي ترفض هذا الإرهاب لكنّها متورّطة بمقولاته؛ فأصلٌ أنّ البيئة الداخلية لهذه المقولات خصبة بإفرازها وتعميدها، وليس من تشريعات لإزحتها دستورياً فيما يردع الناس من بناء تصوّرات شعبيّة لا تنصبّ في خانة حماية وصون السلم الأهلي لطالما هي متورّطة بمقولات فئويّة؛ ومجموعة هذه الردود الخطابيّة مشتركة في تعطيل الفعل الإصلاحي الدستوري لأنّها تنتقد الآخر وتجعله المسؤول الأوّل والأخير، ولا تنتقد الذات بوصفها المسؤول عن نقض أخطائها وتقويمها وإصلاحها، وإن كانت الذات مغرّرة بالتبعيّة وبالتحريض وبالتضليل إلاّ أنّ هذه التبعيّة كافيّة بحدّ ذاتها على حملان المسؤولية: فنحن حينما نتبنّى خطاب الدفاع عبر اتهام الآخر إنّما هو خطاب الهروب من المسؤوليّة الواقعية، كما أنّه في الوقت عينه: يحمل شُبهة الموافقة على الفعل - وهنا خطورة الخطأ في تقويم الإرهاب، وخطورة إحالته إلى التبرير، أو إلى ما قد يتماهى مع (الدفاع عن النفس)، إذ يحتمل أن يُفهم حملان خطاب الدفاع ما يفيد برخصةٍ لا تخرج عن كونها تحريضاً صريحاً، وذلك من منظور أنّ تبرير الفعل أو تفسيره باتهام الآخر / كونه هو الذي بدأ بالفعل، هو تبريرٌ يفضي إلى تبرئة الفاعل، فلا يختلف الفعل الإرهابيّ حينذاك عن الوقائع الجنائيّة التي تنتهي بالتبرئة تحت مواد الدفاع عن النفس؛ فإلى أيّ مدى يمكن الاستسلام إلى أنّ خطاباً مليئاً بالدفاع عن النفس والهروب من تقويمها قادرٌ على إحداث ما يغيّر البيئة الحاضنة للعنف، على أنّه الوسيلة الوحيدة والأسرع في مواجهة أيّ استفزاز أو عنفٍ أيضاً!؟
(3)
وهذا الخطاب الذي يبتعد عن نقد الذات وبيئتها يحتشد بكلّ ما من شأنه تجميد البيئة الحاضنة على ما هي عليه: (كنظرية المؤامرة ضدّ الإسلام، أو اتهام الغرب بأنّه المسبّب والمحرّض، أو إدانة الفعل الإرهابي مع التأكيد أنّ هؤلاء الإرهابيّين يحملون فكراً وسلوكاً لا يمثّل الإسلام الصحيح، وهي العبارة التي ترفض بحدّ ذاتها وجود بيئة حاضنة)، ولا يرتقي هذا الخطاب إلى مواجهة الواقع وتحدّياته عبر إصلاحات دستوريّة وسياسيّة تعالج البيئة الداخليّة والبيئة الخارجة، لطالما أنّ كليهما طرفان في هذه العمليات، ممّا يؤدّي إلى افتراضٍ لدى الغرب (يصعب دحضه) في توازي وتساوي فعل الإرهاب عند أيّ عملية إرهابيّة بما يتبعها من ردّات فعلٍ عربيّة وإسلاميّة.
فحينما يُنتظرُ منكَ إدانة الفعل يُنتظرُ أنْ تُدينه دون السقوط في التبرير، لأنّ فعل الإرهاب لا يُبرّره إلاّ الإرهاب، فأنتَ إذا أدنْتَ الفعل وقارنته بالمسبّب فكأنّك اتّهمت الضحيّة، ذلك أنّك نسيت واقعة الإرهاب ونكرانه ورُحْتَ تركّز على أسباب خارجيّة تحمّل الضحيّة مسؤوليّة ما وقع عليها من إرهاب، كأنّ الضحيّة قامت بالفعل أو أنّكَ تَزرُ الضحيّة وزر بيئتها السياسيّة التي تتهمها بالقيام بالفعل، وأنّ الإرهاب ما كان إلاّ ردّة فعل؟ أليس من الخطورة بحيث إنّنا نتساءل لماذا يعترض الغرب حتّى على إداناتنا للإرهاب، ويبقى في حيرة منها؛ كيف له أن يستسلم ويرضى بخطاب إدانة يحمل التبريرات الدائمة التالية: (أ) هذا الفعل أو هؤلاء الإرهابيّون لا يمثّلون الإسلام الصحيح، وهي المقولة التنظيريّة الهاربة من نقد الذات، فهذا النزعُ بحدّ ذاته تبرئة للبيئة ومراجع البيئة الانتقائيّة. (ب) هذه العملية جزء من مؤامرة ضدّ الإسلام، مقولة خياليّة تترك المعلوم وتعتمد المجهول في قراءة الواقع وتحوّل الصراع أو علاج الإرهاب والتطرّف إلى صراعات ثقافيّة وأمراض ثقافيّة لا يمكن أبداً حلّها ونهايتها (ج) السياسات الغربيّة هي السبب الرئيس لهذه العمليات الإرهابيّة، مقولة تبرير وتحمل تبرئة وابتعاداً عن نقد الذات ورؤية البيئة الحاضنة.. وتحت هذه التصوّرات - جزءاً منها أو جميعها أو فوقها - يرتكز خطاب الإدانة العام، فإلى أيّ مدى يمكنك الاطمئنان إلى أنّ هذه الخطاب الذي يوشك أن يطغى عموميّاً قادرٌ على ردم هوّة العلاقات الدولية العربيّة والغربيّة، أو كيف يمكن اعتباره خطاب إدانة خالياً من الشكوك والملابسات التي تحيطه وتهدّده: بأنّه خطاب إدانة، لكنّه في الوقت عينه خطاب مُدان؟!
- جدة