(لا يوجدُ حبٌ أكبر)
ألبرت كوهين
(1)
ماذا يحتاج المرء ليكتب رواية مشوقة وعظيمة؟!
أحدهم سيقول إنه يحتاج للموهبة واللغة. ثم سيتنطح آخر ليقول إنه يحتاج إلى الخبرة والدربة وعمل سنوات متواصل. ثم سيقول آخر إنه يحتاج لمخيلة جبارة، يخرج منها وعنها، ما لا يمكن أن يخرج من مخيلة ضحلة وعادية. ثم سيقول آخر: لثقافة ملمة بما يكتبه، أو حتى على أقل تقدير يحتاج إلى قدرة على القراءة والحفظ. أووووه الحفظ..! هذه وحدها تحتاج إلى دماغ صمغي تلتصق به الأفكار، ويلتصق بها. ثم سيقول آخر إنه يحتاج للتواضع والقدرة على محو ما يكتبه عشرات المرات قبل أن يستقر على نص نهائي. والحق، إن هذه الأشياء مجتمعة، عليها، في لحظة تاريخية ونادرة، الاجتماع في فرد واحد، لا يهم الطول والعرض هنا، المهم أن تجد لها مكاناً داخله؛ لتطلق العنان لنفسها، وتُنتج أدباً عظيماً.
تروي رواية (غريق يتسلى في أرجوحة - 2015) رغم وجازتها حكاية لها تعقيد وعمق، بقدر ما تكشف الذكاء في المعالجة النصيّة، بالجمل القصيرة المضيئة ليوسف المحيميد، تكشف عبر بناءات اجتماعية، تزعم تمثيلها للمجتمع بشموليته. فتتطرق الرواية لقضايا عدة، مثل الحرية وحرية القول السياسي والتعبير ذهاباً حتى نهايتها في انتقاد لاذع للإعلام الرسمي. إلى العلاقات الاجتماعية وطرق بناء الشخصية المستقبلية لجيل الثمانينيات، تحديداً في مدينة الرياض. ثم العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة، التي يتفرع عنها، عرضياً، مسألة العلاقة بين نجد والحجاز من خلال ما يشاع اجتماعياً، دون أن يصلَ إلى المعالجة السياسية الحِرفيّة. فالسياسة في هذا المجال انتهت يوم وُحدت المملكة، ووضعت حدودها، وبني لها جيشٌ وسياج. ثم يذهب أبعد في النهاية ختاماً مع أحداث جدة وما ألم بها من فيضانات أزالت بشراً في طريقها. وبشكل التفافي كشفت، من حيث لا يُتوقع، بذرة مجتمع مدني بدائية، ساهمت في بلورتها الأولية مجريات التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي وما يفرضه ذلك من انفتاح على العالم، بحيث إن المبادرات (الشبابية) عبر عنها فوراً داخل المجتمع الحجازي مع الحدث نفسه (الطوفان) دون إغفال أن الحدث نفسه، أيضاً، حرّك مجتمعاً مدنياً (نخبوياً) نجدياً، تمثل في مخرج الأفلام القصيرة والشخصية المحورية في الرواية (فيصل)، إلى جانب المنتج والممول (صلاح)، إلى جانب سائق (محسن).. وهؤلاء جميعهم تكبدوا عناء رحلة بريّة من الرياض إلى جدة لتوثيق ما حصل ونشره عالمياً؛ وبالتالي فضح الجوانب التقصيرية الفادحة التي اتسم بها عمل الأجهزة الرسمية. على ما كان الهدف من الرحلة التي خطط لها الممول والمنتج صلاح، الذي شأنه شأن أقرانه، يعلم كيف يخرج الأموال من أشد اللحظات الإنسانية قتامة وقسوة.
بعد قراءتها وإعادة قراءتها (176 صفحة) ينتابنا دائماً شعور مربك بأن أمراً ملغِزاً قد بقي في النص بعيداً عن المتناول. سيرة موازية بقيت طي الكتمان، حتى بعد قراءة الرواية بتأنٍ أكثر، نقف عند الانطباع الأول نفسه. إن ثمة خلفية قاتمة وعنيفة، مُنفِّرة، لها علاقة بروح البطل (فيصل) نفسه، وبالتجربة المشتركة للجنس البشري. وهذه خلفية غالباً ما تتمكن من إظهارها الأعمال الأدبية الفذة، وعلى نحو مفاجئ، تثير فينا الخوف من القتامة والمصير؛ ذلك أننا نتوقع في حياتنا البسيطة أننا قد خُلصنا من هذا الخوف بسبب الثقافة والمعرفة أو حتى بسبب الإيمان أو الأخلاق العامة.
(2)
تتمحور مهنية المحيميد، كروائي متمرس، في (غريق يتسلى في أرجوحة) في ضبطه المستمر، على مدى سيلان النص الهادر نفسه، للإيروسية التي تتكشف في النص خلف كل كلماته دون أن نتأكد من لمسها بواقعية؛ ذلك أن الدلالة لوجود الإيروسية في هذا النص دلائل كبيرة، ومصدرها هو النص نفسه، رغم أنه لا يذهب إلى الكشف المباشر، ولا يصل إلى مستويات عالية من الوضوح (إلا في بعض مواضع الرواية)؛ إذ تذهب بنا الصور المتتالية إلى إكمال مشهديتها. لكن في رواية كهذه، تجمع الحب مع السياسة، والنزعات العنصرية مع الإحساس بالغبن التاريخي، والنظر إلى الآخر بفوقية من جانبي الجغرافيا، ثم التكافل في إخراج المجتمع من ركوده المديد.. كل هذا يجعل من الإيروسية اللاكانيّة (نسبة إلى جاك لاكان) في هذه الرواية تتجه نحو مسار نظري عرف في الخمسينيات (Méconnaissance)، عبَّر من خلاله لاكان عن اللحظة التي تتكون فيها الأنا عند الطفل لحظة مواجهته للمرة الأولى للمرآة معاكساً بذلك فرويد الذي اعتقد، نظرياً، أن الأنا تتشكل من خلال الذاكرة الجنسية التي نحملها.
لا يكتب المحيميد عن (belle époque) أو الزمن الجميل، بل عما يعتقد أنه كان - ولا يزال - جحيماً حقيقياً، ترك ندوبه التي تتفاقم طيلة مسار الحياة، رغم تعرجاتها وتقلباتها، فإن الحياة نفسها ما كانت لتكون بهذه المطواعية لاستدراج الكوابيس؛ إذ للجغرافيا دور بارز كما للمجتمع المحيط دور أبرز بكثير. وعلى غرار (Nadja) لأندره بروتون؛ إذ يتحول الواقع اليومي الأكثر ابتذالاً إلى صور مناميَّة، ثم إلى كوابيس تبث الحيرة ثم إلى مشاريع أفلام قصيرة، غالباً ما تكون ناقصة المضمون وبلا نهاية؛ وهو ما يساعد المتلقي على استدراج أفكار ونهايات تفاعلية، لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها قيمة أو فاشلة. إن مخرج الأفلام القصيرة (فيصل)، الذي يعيش حياة حلميَّة من خلال علاقته بالأمكنة، لا تساوره ولو لمرة واحدة فكرة الاندماج بالمكان بشكل كلي، بل إن حياته، كاملة تسيرُ في واقع آخر فيما أقدامه تمشي الهوينا في شوارع الرياض العاصمة التي لم يجد بطل الرواية مسكناً ملائماً فيها سوى بجوار المقابر.
إن الراوي أو بطل الرواية إذ يسردُ حياته بما هي مأتلفة مع الحضور الغيبي (لم يتعامل بطل الرواية مع شخصيات مؤثرة في حياته وجهاً لوجه سوى مع والدته ووالده وأحد أصدقاء الطفولة)؛ ما يجعل حياته نفسها تكتنز بالرغبة بالحرية على ما قال يوماً الماركيز دو ساد. بكل الأحوال، يتعلق الأمر هنا بسيادة الفرد المطلقة والكاملة التي تتقدم على المعايير الأخرى التي تقدمها المدينة والمجتمع، حتى وإن كان مجتمعاً متخلفاً (Arriéré). فالحرية التي ينشدها (فيصل) هي ذاتها الحرية التي ينشدها مجموعة أشخاص في أماكن مختلفة جغرافياً (كل صباح حين أغسل وجهي أمام المرآة أمد لساني لأتأكد أنه في مكانه، أو أن أحداً لم يسرقه في الظلام). ص 11.
(3)
في لحظة من مأساته الداخلية يذهب المجتمع بكليته إلى الانفصال التام عن الواقع (طلاباً مستجدين في جماعة التوبة الإسلامية جاء بهم المشرف لمعايشة الموت والوحدة) ص 17. ولعل هذا المشهد السريالي وحده كفيلٌ بجعل القارئ يتصور الكم الهائل من السوداوية التي سكنت في عقول جيل كامل، وربما أجيال من البشر الذين فقدوا أية علاقة بينهم وبين الحياة، أية علاقة موازية لعلاقات الجميع، بينما في الانتقال إلى (طوفان جدة) نجد أن الأجيال غير الملوثة فكرة الحياة في تصوراتها هي من ينقذ الهالكين، والذين يقفون على عتبات الموت.
لا أعتقد أن يوسف المحيميد قدم روايته المشوقة هذه فقط ليزيد إلى الكم الهائل من الروايات التي تنشر سنوياً رواية جديدة، بل إنه يفتح فيها نقاشاً فكرياً وأدبياً وفلسفياً واجتماعياً لا بد من فتحه. وهو بهذا العمل لا يقدم رواية تبرز الصورة الواقعية للمجتمع السعودي وتركيبته الصعبة للآخر، إنما يحثُ هذا المجتمع نفسه على النقاش والتحاور وخلق مساحات جديدة من العيش وابتكار وسائل مختلفة للتواصل، وهو بهذا لا يكتب رواية عادية بل نموذجية، ليست كما نظيراتها إن اعتمدنا تسمية الأدب السعودي.
بدءاً من اليوم، رفع المحيميد سقف الرواية السعودية عالياً. وسواء أحببنا النص أم لا، فإن السقف ارتفع أخيراً، ولن تطوله رؤوس كثيرة على ما أعرف وأقرأ وأتابع منذ عقدين ناجزين ..
سيمون نصار - باريس