صدر قبل ستة أعوام تقريباً عن دار التدمرية بالرياض كتاب «مُلَحُ العلم... مجموعة من التراجم والسير والفوائد» لمؤلفه الأستاذ الدكتور هشام بن عبدالملك بن عبدالله بن محمد بن عبداللطيف آل الشيخ أستاذ الفقه المقارن والسياسة الشرعية والقضاء الجزائي بالمعهد العالي للقضاء حينها. وذلك تحديداً عام 1439هـ / 2018م؛ وقد جاء الكتاب في مائتين وعشرين صفحة مقسمة على قسمين، كان الأول بعنوان التراجم والسير متضمنًا أربع تراجم وخمسة مشاهد، جاءت تحت عنوان روائع من سير الأجداد، أما القسم الثاني فعُنون بـ «فوائد علمية منتقاة» حمل في طياته أربعة وخمسين عنواناً ما بين فوائد ولطائف. وسبق القسمان بمقدمة مختصرة ختمها المؤلف بعبارة يسبق بها اسمه ويختم بها جميع مقدمات مؤلفاته ألا وهي «كتبه أفقر العباد لربه».
سبب التسمية
ذكر المؤلف في هامش المقدمة قولاً لمعالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ -وزير الدولة عضو مجلس الوزراء- في أحد مجالسه العلمية، مختصرهُ أن العلم قسمان: عُقَد ومُلَحُ؛ فأما العُقَد فهي تعقد القلب مع العلم وأما المُلَحُ فلا بد منها للمسير في طلب العلم، واستمرار المرء بعُقَد العلم وتقوية العلم وأصوله دون مُلَحُه قد يجعل المرء يكسل أو يمل، لذلك فإن النفس تحتاج إلى أن تصقل وتزال بشيء من المُلَحُ.
القسم الأول؛ التراجم والسير
جاءت الترجمة الأولى عن والد المؤلف؛ الشيخ عبدالملك بن عبدالله (ت1418هـ / 1997م) الذي تخرج في كلية اللغة العربية عام 1385هـ وعمل لسنوات في الحقل التعليمي في المملكة وفي عدد من الدول العربية، كما قام بالتدريس في جامعة كابل بأفغانستان لعدة سنوات قبل أن ينتقل للعمل مستشاراً في مكتب وزير العدل حتى وفاته، كان مما ذكر فيها درس له بعد صلاة العصر من كل يوم في المسجد القريب من منزله بحي ظهرة البديعة في غرب الرياض استمر نحو عشر سنوات، كما أورد المؤلف في ختامها تفاصيل آخر ليلة لوالده وقد كان مرافقاً معه في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، منها آخر ما قاله الوالد لابنه قبل وفاته بدقائق حيث قال (هشام كن مع الله ولا تبالي)، ثم توفي بعدها رحمه الله. وثنى المؤلف بترجمة لجده لأبيه الشيخ عبدالله بن محمد (ت1371هـ / 1950م) كان مما ذكر فيها إقامته مدة بمكة وانصرافه للعبادة وطلب العلم على علماء الحرم المكي الشريف من أمثال الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة الذي قرأ عليه تفسير ابن كثير كاملاً، أيضاً مما أورده عنه أنه كان قد عمل كاتباً في جباية الزكاة فكان أهل إقليم المحمل بنجد يسمونه (مرقب رغبة) – وهو معلم تراثي ما زال قائماً في مركز رغبة شمال غرب الرياض- وذلك لطول قامته، ثم استدرك المؤلف على الزركلي ما جاء في كتابه الأعلام من خلط بين الشيخ عبدالله بن محمد وعمه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، ايضاً نوه بأن ليس كل ما ذكر في كتاب الأعلام صحيح عن الشيخ عبدالله بن عبداللطيف. وأورد المؤلف ترجمة لجدته لأبيه أم عبدالملك سارة بنت إبراهيم الجهيمي (ت1436هـ / 2015م)، وأشار المؤلف في ترجمتها إلى عنايتها بابنها سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ وكيف أنها كانت مرافقة له في المستشفى المركزي بالرياض - مدينة الملك سعود الطبية حالياً- لما أجرى العملية التي فقد على إثرها بصرة تماماً، فحزنت لذلك حزناً شديداً فقال لها الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -المفتي حينها- يا أختي: هذا أمر قضاه الله وقدره، وأرضي عن الله، نحن كلنا أكفاء، فقالت له: يا شيخ محمد لو أعلم أن عيني اليسرى تؤخذ لأمرت بأخذها. وعن أنها كانت مستجابة الدعاء وذكر المؤلف موقف في ذلك، وقال إن لها غير هذا الموقف مواقف يعرفها لجأت فيها إلى الدعاء واستجاب الله لها. ثم ختم المؤلف التراجم الأربع بترجمة لجد والده الشيخ محمد بن عبداللطيف (ت1367ـ) وأشار في هامشها إلى أنه قرأها على سماحة المفتي فأجازها؛ والشيخ محمد بن عبداللطيف هو الشيخ العلامة، تولى قضاء القويعية وشقراء والرياض وكانت له يد طولى في التفسير والحديث والفقه وآلت إليه الفتوى في نجد وكان أول خطيب لعرفة في العهد السعودي، ولقد كانت هذه الترجمة مرجعاً لي في مقالي المعنون بـ»ضوء على وثيقة نادرة لأسرة نجدية... آل نويصر العنقري» المنشور في صحيفة الجزيرة يوم الاثنين 5 / 9 / 1444هـ -27 / 3 / 2023م العدد: 18281، حيث إن تلك الوثيقة دوّن عليها إثباتاً لما فيها بخط الشيخ محمد بن عبداللطيف ولما حصلتُ على الوثيقة وقررت نشرها والترجمة للشخصيات الخمس المذكورة فيها اعتمدت هذه الترجمة التي كتبها أ.د. هشام بن عبدالملك عن جد والده لأنقل منها. وانتهى القسم الأول من الكتاب بخمسة مشاهد سُميت بروائع من سير الأجداد منها ما حدّث به الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل الشيخ (أبو سعود) المؤلف لما زاره في منزلة بالطائف عام 1420هـ / 2000م، مخبره بخروجهم للحج مع الملك عبدالعزيز لما فتح الحجاز عام 1343هـ / 1925م وأنه لما وصلوا الحرم المكي أمر الملك عبدالعزيز الشيخ محمد بن عبداللطيف أن يتقدم فيخطب في الناس الجمعة ويصلي بهم، وبعد الصلاة قدم جمع من أهل مكة لسلام على الملك وطلبوا منه تثبيت الشيخ محمد إماماً وخطيباً للحرم المكي فالتفت الملك ولم يجد الشيخ، فقال ننظر في الأمر إن شاء الله، فاختفى الشيخ طوال أيام الحج خشية أن يلزمه الملك بذلك، ولم يلتق به الملك عبدالعزيز إلا بعد عودته إلى الرياض، فقال له: يا شيخ محمد قد علمت اعتذارك عن غيبتك عن الأنظار طوال فترة الحج فالأمر لك يا شيخ ولن ألزمك بأمر تكرهه، فقال الشيخ محمد له: أطال الله عمرك يا إمام؛ للحرم المكي هيبة ولي في البقاء في الرياض رغبة ولم أكن لأرد كلامك أمام أهل الحجاز فآثرت الانصراف على البقاء.
• القسم الثاني؛ فوائد علمية منتقاة
ثم جاء القسم الثاني وهو أطوال من القسم الأول؛ حاملاً بين طياته أربعة وخمسين عنواناً كما أشرت لذلك مسبقاً. كان المؤلف قد جمعها خلال سنوات مضت في مواضيع شتى، من طريفها ما نقله المؤلف عن الذهبي في سيرة قوله عن وفاة بعض الزنادقة وأهل الضلالة: انقلع سنة كذا، كما نقل عن الذهبي كلامه في كتابه زغل العلم عن المذاهب الفقهية المتبوعة. وأيضاً ذكر المؤلف قصة فقهية طريفة؛ وهي أن امرأة ماتت وجنينها يضطرب في بطنها فسُئل عنها أشهب وابن القاسم، فأفتى أشهب ببقر البطن واستخراج الجنين وأفتى ابن القاسم بعدمه، فعملوا فيها بكلام ابن الأشهب فخرج الجنين حياً، وكبر وصار عالماً يُعلم العلم ويتبع قول أشهب ويدع قول ابن القاسم، وذكر عنه أن كان يأتي ابن القاسم فيقول: السلام عليك يا من قتلتني وأحياني الله، فيرد عليه ابن القاسم: وعليكم السلام يا من قتلتك السنة وأحيتك البدعة. كما أورد المؤلف القصيدة العظيمة المبكية في رثاء الأندلس لأبي البقاء صالح بن شريف الرندي، ثم علق عليها بقوله: والله أنها قصيدة عظيمة تبكي القلب وتدمع العين وأنه لينعصر القلب عند مشاهدة آثار المسلمين في الأندلس فلله الأمر من قبل ومن بعد. (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) إذاً لا بد من الاعتبار ومعرفة أن البعد عن الله تعالى عواقبه وخيمة. أيضاً من لطيف ما ذكره المؤلف لفتة قضائية وهي أن في الحرب العالمية الثانية حولت بريطانيا أحد مطاراتها المدنية مطاراً حربياً، وكان بجانب ذلك المطار محكمة مدنية. فتسبب ذلك التحويل بأصوات مزعجة أدت إلى تشويش الأعمال في المحكمة، مما جعل القاضي يستصدر حكماً بنقل المطار الحربي وإرجاع المطار إلى وضعه السابق، رفض القائد العسكري ذلك ورفع الأمر إلى تشرتشل رئيس الوزراء البريطاني آنذاك فرد على القائد العسكري قائلاً «من الأفضل أن تخسر بريطانيا الحرب على أن يقال إنها لا تنفذ أحكام القضاء»، وبناء عليه تم إرجاع المطار إلى وضعه السابق ونقل المطار الحربي إلى مكان آخر. كما أورد المؤلف مبحثاً نفيساً جاء تحت اسم لا تخلط بين عالمين اثنين كان مما ذكر فيه أن اسم القرطبي يحمله عالمان هما صاحب التفسير وصاحب شرح صحيح مسلم أيضاً ابن رشد اجد صاحب المقدمات وابن رشد الحفيد صاحب بداية المجتهد ونهاية المقتصد ثم علق على هذا المبحث بقوله: تتبع مثل هذا من أنفس العلوم وأحسنها لطالب العلم. وجاء المؤلف ببيتين شعريين للأمير خالد الفيصل هما:
لو كل زلة رفيق أزعل منها وأضيق
تعذرت في الرفقة وصكيت بيبانها
ماكل من قال أنا صاحبك أعده رفيق
ولا كل زلة رفيق أزعل على شأنها
وختم المؤلف القسم الثاني والأخير بقول للمروذي ولأبي حامد الغزالي جاءا تحت عنوان حقوق الطبع محفوظة. ثم إن هذه السطور هي قراءة واستعراض لكتاب «مُلَـحُ العلم» جاءت على عجالة وفي خشية من الإطالة وإن كنت قد وقعت في شيء منها، ولست الأول في استعراض النتاج المعرفي والعلمي لـ أ.د هشام بن عبدالملك فقد غرد الأستاذ بسّام اليوسف عن كتاب «مُلَـحُ العلم» في حسابه بمنصة X وعرّف به ونقل منه فائدتين، كما استعرض الأستاذ أحمد بن عبدالمحسن العسّاف كتابا آخر لـ أ.د هشام هو «بحوث عملية مُحكمة» في مقال نشره في مدونته الزاخرة.
ختاماً هذا جهد المقل أنشره مقدماً لرجل ومؤخراً لأخرى راجياً من الله أن أكون قد وفقت في جُهدي وأن يمنّ الله سبحانه وتعالى على شيخنا الأستاذ الدكتور هشام بن عبدالملك آل الشيخ وعليّ بالبركات والتوفيق لما هو خير في جميع مجالات الحياة.
** **
- عبدالعزيز بن صالح الدغيثر