حامد أحمد الشريف
«عرفتُ الوِحدَة مبكرًا؛ منذ الطفولة، عندما سأل المُعلِّم في المدرسة قائلاً: «ذهب الطلاب كلّهم إلا عليّ، فكم طالبًا بقي في الصف؟» ومنذ ذلك الحين يغادر الجميع، إلا أنا، وحدي، أنتظر الإجابة الخاطئة..»
علي بن يعقوب
عادة لا أسأل عن مغازي الكاتب من كتاباته، أكانت نثريّة أو شعريّة، بل أحبّ خوض تجربة القراءة الواعية لوحدي، بعيدًا عن أيِّ معطِّلاتٍ للفهم أو مُعينات ومقوّيات تضيء طريقي وتيسِّر لي الوصول إلى المعاني المستهدَفة، فالسؤال عن معاني النصوص غالبًا ما يدفعنا لإلباسها ألبسةً مستعارة قد لا تناسبُها، خلافَ أنّني أسعد أيّما سعادة عندما أجد نصًّا يستنهض قدراتي العقليّة ويدفعني للتأمُّل فيه ومعاودة القراءة بغيةَ الوصول لفهم مغازيه الدفينة، لعلّ ذلك يرضي غروري أيضًا ويحقِّق لي التميُّز الذي أبحث عنه عندما أشعر أنّني وحدي القادر على فكّ شفرة النصّ وكشف معانيه الخفيّة، أو أنّني الوحيد القادر على الوصول إلى مستوياته القرائيّة المتعدّدة. يحدث ذلك حتّى وإن بدا النصّ في مستوى فهمه الأوّل بسيطًا يلتقطه الجميع، فالمستوى الأوّل، كما هو معلوم، لا يعنينا إلّا كشرط قبول العمل وإدراجه ضمن أدب القصّة الإبداعيّة، أو ضمن الأدب؛ أو، لنقل، إنّ أهمّيّته تكمن في التجنيس والنواحي الجماليّة المطلوبة في النصّ الأدبيّ، مع الحفاظ على مستوى قرائيّ يفهمه الجميع عدا شريحةً صغيرة جدًّا ممّن يعانون صعوباتٍ في الفهم نتيجةَ نقصٍ حادّ في قدراتهم العقليّة، أو جهلهم المطبق وعدم رغبتهم في الفهم.
هذا المستوى الأوّل تستمتع به الشريحةُ الأكبر ممّن لا يعنيهم غيرُ منطوق النصوص وصورتُها السطحيّة البسيطة التي قد لا يبحثون عن غيرها، وإن كان ذلك لا يخلق قيمةً إبداعيّة للنصّ، فالقشور، في كلّ أحوالها، مجرّدُ أغلفةٍ لا قيمة لها إن لم يكن خلفها قِيَمٌ حقيقيّةٌ تظهر بعد تخطّيها، والنصوص الأدبيّة لا تبتعد مطلقًا عن هذا الفهم؛ وهو ما جعل بعض الكتّاب يجتهدون في تعقيد النصوص وجعلها عسيرةً على الهضم، حتّى لا تُسقطَها بساطتُها؛ أو، لنقل، يحمِّلون النصوص ما لا تحتمل، مستثمرين عدم فهمنا أو استيعابنا، ومتحجّجين بأنّنا لم نفهم مراميها ومقاصدها الخفيّة لِعلّةٍ في فهمنا وقصورٍ لدينا، مبرّئين بذلك أنفسهم وذاهبين باتّجاه القطب الآخر، لظنّهم أنّ البشر يعشقون ما يتحدّى قدراتِهم. وكلّ ذلك، بالطبع، غير صحيح، فالتحدّي المطلوب هو أن يتمنّع عليك النصّ بدايةً ثمّ يمنحك إذن الدخول، بل ويسعد بنفاذك إليه؛ ولا يشمل ذلك، يقينًا، الأبواب الموصدة التي لا يمكن فتحها.
-ما أذكره ينسحب، بالتأكيد، على كلّ النصوص ولا يتعلّق بهذا النصّ فقط الذي لا أعرف له عنوانًا؛ فالكاتب - في ما يبدو - لم يعنونه، إن لم تكن العبارة الأولى المجتزَأة منه هي العنوان، وأعني بذلك قوله: «عرفتُ الوِحدَة مبكِّرًا»، فقد جاءت خارج نطاق السرد، ويمكن أن نُلحق بها: «منذ الطفولة» ونفصلهما عن باقي الحكي تجاوزًا، حتّى نستطيع وضعَ عنوانٍ مجازيٍّ لهذه الأقصوصة. ولكن، أظنّكم تتّفقون معي بأنّه ليس عليّ فعل ذلك، ولا سيّما أنّ الكاتب، كما تُظهِر منشوراته، يميل كثيرًا إلى الفلسفة، وربّما إلى تعقيد الأمور... وقد يكون تقصّد ترْكَ النصّ بلا عنوان، معتبرًا ذلك مفتاحًا لفهم النص.
إذا ما سلكنا هذا المنحى التحليليّ فإنّنا سنجد أنّ الحكاية تخبرُنا عن شخصٍ فقدَ لذّة العيش نتيجةَ الموقف الذي عاشه مع معلّمه، فأصبحت حياته بلا عنوان. وبذلك يمكننا أن نعتبرَ أنّ خلوَّ النصّ من العنوان هو أحد السيميائيّات التي زرعها الكاتب بهدف تيسير فهمنا لقصّته.
ولكن، كيف لنا الجزم بذلك؟ وكيف نردّ على من يتّهمنا بالحذلقة وتحميل النصوص ما لا تحتمل، طالما لم يظهر بوضوح ما يشير إلى قصده؟ فلربّما كان للكاتب فلسفةٌ معيّنة لا نعلمها، كأن يكون ممّن يرَون أنّ العناوين تقولِب القارئ وتدفعه في اتّجاهاتٍ معيّنة؛ أو أنّنا لا نحتاج للعناوين متى كان بوسعنا صنعُ محتوًى يعبّر عن نفسه؛ أو أنّه، بكلّ بساطة، نسي إرفاق العنوان، وعند اكتشافه هذا الخطأ لم يستطع العودة عنه وفضّل استثماره بركوب موجةِ مَن غرِقَ في شرح مغزاه الدّفين ودلالاته السيميائيّة، وربّما ضحك في سرّه من سذاجة هذا الطرح. وقد يأتي أحدهم غاضبًا يخبرنا أنّه كان باستطاعته، إن كان يتقصّد ذلك، وضعُ عنوانٍ للقصّة يحقّق هذه الغاية، فيكتبه على هذا النحو: «بلا عنوان»، ويكون بذلك قد قطع الشكّ باليقين؛ أو كان بوسعه كتابتُه على هذا النحو: «.........»، فنفهم أنّه ترك قصّته بلا عنوان عمدًا... بدل إقحامنا في هذا الجدل البيزنطي وهذه التوقّعات المربكة التي أوقفتنا طويلًا على عتبة العنوان ولم تسمح لنا بالدخول إلى النصّ، وهو أمر غير مقبول.
ولعلّي أعترف بأنّني لن أستطيعَ مجابهة الناقمين على مثل هذه النصوص المطلسمة، وخوض غمار الجدال معهم، حتّى لو كنت أنا مَن دوّنَ هذا النص، أو في حال تجنّدت للدفاع عنه؛ فأنا غيرُ موقنٍ من استنتاجاتي، وحتّى لو تيقّنت من ذلك يعوزني الدليل على صدق نبوءَتي؛ حتّى أنّ الكاتبَ نفسه لن يُقبل قوله لو أيّدني في ذلك أو تبنى هذه الفكرة وقال بها، طالما كان هو المستفيد الوحيد من تمرير هذا التجاوز، إذ ليس هناك بالفعل ما يدعم هذه الفلسفة القرائيّة، والمعاني - كما هو معلوم – بشواهدها؛ وإلّا لأصبح منَ السهل كتابة ما نريد ومن ثمّ نلصق به المعاني التي تعجبنا. لذلك، سأسلك الطريق الأسلم فأعتبر أنّ النصَّ، كما هو ظاهرٌ للجميع، بدون عنوان، طالما أنّنا اتّفقنا على أنّ المعاني التي يحملها النصّ الأدبيّ تحتاج لشواهدَ تدلّ عليها، وبدونها لا يمكننا ذكرها مطلقًا؛ فالنصوص لا تُقرأ إلّا من داخلها، وبمعزل عن كاتبها، كما يخبرنا الناقد الفرنسي «رولان بارت» في حكايته العظيمة عن موت المؤلِّف، وذلك بالطبع لا يتناقض مع حديثنا عن خلفيّة الكاتب، فهي مجرّد إضاءة، لا يضيرنا إن عرفناها طالما لم نوظِّفها للجزم بمعانٍ معيّنة لا يشير إليها النصّ.
أظنّ هذه البداية المتعثِّرة جدًّا مع العنوان توحي لكم بحجم الصعوبات التي واجهتها رغم هذا العدد المحدود من المفردات وصغر حجم النصّ، وأظنّها ستواجه كل قارئ أمام أيِّ نصٍّ مشابه لهذا النصّ ويعتقد صاحبه أنّ التلغيزَ ضرورةٌ إبداعيّة وفنٌّ لا يتقنه غيرُ نُخَبِ الكُتّاب، ولا يقرأه إلّا نُخبُ القرّاء؛ ما يعني حاجتَنا المبكِّرة للاعتراف بالصعوبات التي خلقها هذا النصّ حين تركنا نختلف حتّى على عنوانه، علمًا أنّ نقّاد ومحبّي هذا النوع من القصص (قصص الومضة)، اتّفقوا على أنّها لا تستغني مطلقًا عن العنوان، كما عن أيٍّ من اشتراطاتها، ولديها حساسية مفرطة من مثل هذه التجاوزات، إن حدثت، فهي لا تتنازل عن استحقاقاتها الإبداعيّة بسهولة، وتحتاجها بشدّة للنهوض بفهمها، متجنّبةً إلباسها ثوبَ الخاطرة التي تطاردها في كلّ حين، والتي تجد القصّة القصيرة جدًّا صعوبةً كبيرة للفرار منها والنجاة بنفسها.
لذلك، يُعَدُّ كسر قيود هذا النوع من السرد المختزَل جدًّا، عبَثًا غير مبرَّر، ولاسيّما عدم وضع عنوان لها، فبعض القصص القصيرة جدًّا يستحيل فهمها بدون العنوان؛ وفي كلّ الأحوال، لا مناصّ من اعتبار الجملة السابقة جزءًا من النصّ، أو توطئةً له، أو مدخلًا وبدايةً محفِّزة، طالما لم نستطع استلالها ووضعها كعنوان للنصّ، معتبرين أنّ القاصّ إنّما أراد بهذا التمهيد، مساعدتَنا على الفهم، من خلال حديثه عن الوحدة ببعدها النفسي أو المرضي الذي سيظهر سببه لاحقًا عندما نمضي في القراءة.
-وبالعودة إلى ما نوّهت عنه سابقًا من استمتاعي بالنصوص التي تحمل مضامين عميقةً تثير حافظتي للفهم والتقصّي، ولأنّني لم أستطع النهوض بهذا الأمر وحدي، فقد قرّرت - ولأوّل مرّة - الاستعانة بمجموعة من الأصدقاء متذوّقي القصّة القصيرة جدًّا، وبمَن برعوا في كتابتها، علّهم يمنحوني الإجابة التي أبحث عنها، ويُعَرّون هذه الأقصوصة أمامي كي أكتشفَ دواخلها المخفيّة، وأقفَ على مواطن جمالها المستترة، مستنهضًا همّتهم لإيضاح مغزى النصّ، بعدما أخبرتهم صراحةً بعجزي عن فهمه، وحاجتي لإنقاذ أدواتي القرائيّة من المثول أمام المحكمة التي سأقيمها لها إن ثبت لديّ بأنّ عدم فهمي كان نتاجَ قصورِها وليس سوءُ النصّ. وتعمّدتُ، قبل ذلك، قراءة ما كُتب من تعليقات على النصّ في وسائل التواصل، علِّي أجد ما يزيل الغشاوة عن عينيّ ويمهِّد لي طريق الفهم؛ ولكنّني، للأسف، لم أجد غير عبارات الثناء والمديح المعتادة، والردود التي لا تخلو من المجاملة بين الطرفَيْن... واستوقفني استفهامٌ طرحه الأستاذ جمال بربري، وهو قاصٌّ مصريّ له عدد من المجموعات القصصيّة، قال فيه: «أين القصّة؟ أين العنوان؟ القصّة لا تستحق الفوز.» لكنّه لم يحظَ بجواب حتّى من الكاتب.
وبخلاف كلّ تلك التعليقات التي ذيّلت النصّ المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّني قد دُهشت من الردود التي تلقّيتها شخصيًّا، فالجميع بلا استثناء، حتّى عشّاق هذا النوع من النصوص، اتّفقوا معي على عدم استطاعتهم الجزم بمعنى محدَّد لا لبس فيه، وإن كان بعضهم اجتهد في الإتيان ببعض المعاني على استحياء، ربّما لخشيةٍ راودتهم في أن أكون فهمت النصّ وأردت اختبار قدراتهم القرائيّة، وهو أمر بالطبع يضحكني، فليس بالضرورة أن نعرفَ الجواب على كلّ سؤال نطرحه، حتّى وإن تظاهرنا بعكس ذلك... المهمّ، وضعت هذه الإجابات في موضعها الصحيح، ولم أعتبرها فهمًا حقيقيًّا للنصّ، لتأكُّدي أنّ النصّ ظلَّ مستغلقًا على الفهم رغم كثرة الذين تعاونوا عليه، وأوقعَنا جميعًا في مطبّ عدم القدرة على تلقّيه بشكلٍ جيّد.
-في الواقع، ورغم كلّ ذلك، تغلّب عليَّ عنادي، ولم أستطع مقاومة رغبتي في كشف قصد الكاتب من هذا النصّ القصصيّ المستفزّ، فقرّرت تقمّص دوره، معتبرًا أنّني أنا من كتبه ولي مرامٍ خفيّة من ورائه. لذا، ذهبت باتّجاه المدرسة النقديّة التفكيكيّة، ونحَّيْت جانبًا المدرسة النقديّة السيميائيّة أو حتّى البنائيّة، لكونهما لم تستطيعا مساعدتي على الفهم؛ ما يعني أنّني سأقوم بتفكيك النصّ وإعادة تركيبه من جديد، بالطريقة التي تُيسِّر لي هذا الفهم؛ أو، على الأقلّ، دراسة مكوِّناته كلّ واحد على حدة، من دون ربطها بباقي المكوِّنات إلّا كناتجٍ نهائيٍّ يعينني على الوصول إلى الفهم، وهو الأمر الذي سيمنحني الفرصة للتعامل مع مفرداته ودلالاتها الاستنباطيّة من دون النظر إلى موقعها في الجمل المسرودة التي لربّما لم يوفَّق الكاتب في صياغتها؛ أو لنقل، إنّني سأهتمّ بالمعاني المطلقة للمفردات المستخدَمة وأهمل قدرَ الإمكان دلالاتِها المكانيّة أو موقعَها في الجملة ووظيفتها.
عندما باشرتُ بتطبيق مخطّطي واجهت صعوبة، فلربما أراد النصّ أن يشير إلى مثالٍ طرحه المعلِّم على الطلّاب بغرض إفهامهم، واستخدم فيه اسم الكاتب أو الراوي المتكلّم، وهو «عليّ»، وأشار إلى أنّ هذا الاستخدام السيّئ لاسمه في ذلك الموقف التعليمي، دفع جميع الطلّاب للمغادرة، إلّا هو، وكانت عبارته هذه واضحة لا لُبس فيها؛ فقد يكون هذا الوضوح والمباشرة غير الجيدة هو ما تسبّب في المعضلة التي عشناها مع النصّ، إذ وقفَا حائلًا منعنا من تأويلها وتحميلها معانيَ أخرى، فعجزنا عن فهم كامل النصّ؛ فجميع الطلّاب، حسب منطوق النصّ، غادروا بالفعل الصفّ، عدا طالب واحد هو «عليّ»، وكانت المفارقة أنّ المعلم سألهم بعدها عن عدد الطلّاب المتبقّين في الفصل، وهو سؤال في العرف التربوي لا يُطرح على هذا النحو، ويعدّ من الأسئلة المعيوبة كونه يُجيب عن نفسه، ولا يُعتدّ به في تقييم الطلّاب، فمن سيجيب يكون قد عرف الإجابة من السؤال نفسه، ويفترض، منطقيًّا، أنّ الطلّاب سيجيبون مباشرةً بأنّ المتبقّي طالبٌ واحد، وسيذكرونه بالاسم وهو «عليّ»؛ وغالبًا ستكون إجابتهم على هذا النحو: «يبقى عليّ» أو «بقي عليّ».
-ومن هذا المثال المطروح يظهر أنّ الموقف التعليميّ يخصّ الصفوف الأوّليّة المتعلّقة بتلامذة صغار السنّ، ممّن لم يتجاوزوا العاشرة، وهؤلاء، كما هو معلوم، لن يهتمّوا بالعدد قدر اهتمامهم بالاسم ودلالاته، بالأخصّ إن كان معروفًا لديهم. ولعلّهم أيضًا، بحكم طفولتهم البريئة، انشغلوا بترديد الاسم مقرونًا بالبقاء، والضحك على ذلك، فيقال: «يبقى عليّ» أو «بقي عليّ». وذلك يعني أنّ «عليّ» الذي هو الراوي المتكلّم وبطل هذه الحكاية، عانى بعد ذلك من عقدة نفسيّة دفعته للبقاء وعدم المغادرة؛ وأصبحت الإجابة الخاطئة المستحيلة، في ظلّ سذاجة السؤال وسهولة الإجابة عليه، هي المنقذ الوحيد له كي يغادر مثل زملائه، وذلك يقينًا لم يحدث. فنستشفّ من هذه القراءة أنّه فشل دراسيًّا، وتكرّر رسوبه وبقاؤه في الصفّ نفسه بسبب سؤال، بينما غادر زملاؤه إلى الصفوف الأعلى، ودفع هو ثمن هذا الاستفهام غير الجيِّد من معلِّم لم يعدَّ بطريقةٍ صحيحة.
-الآن، إن سلّمنا بهذا الفهم للحكاية، واقتنعنا أنّه ليس لها من مغزى غير ذلك، فإنّ علينا أن نحاكم النصّ، أو نحاكم أنفسنا ونجلدها، بسبب عدم قدرتها على الفهم بالسرعة المطلوبة، ودون الحاجة إلى كلّ هذه المعوّقات والحديث عنها. ولكن، في ما يبدو، إنّ هذا المعنى ليس بالقوّة التي تجعلنا نذهب باتّجاه تقريع أنفسنا، إذ لا يمكن الجزم به، فلا سيميئيّات واضحة أو قاطعة، وإنّما هو اجتهاد لفكفكة النصّ ومحاولة الوصول إلى مغازيه الخفيّة التي لا تزال مستغلقة. ولعلّ ذلك ما يجعل البعض يرفض هذا الفهم ويعتبره مجاملة للكاتب ولنصّه، أو محاولة تزكية النفس وإظهار قدراتها الفائقة على الفهم رغم كلّ المعوّقات، على أساس أنّ العقدة ربّما تسبّبت في رسوبه في ذلك العام الذي حدث فيه الموقف، وتأخّر دراسيًّا بسبب تنمُّر زملائه وسخريتهم منه. ولكن، أين باقي الأعوام التي شهدت تأخّره أيضًا، من هذا الأمر؟ وكان من المنطق أن تنتهي الحكاية بانقضاء العام. وحتّى لو افترضنا جدلًا أنّ هذا المسمّى أصبح نبْزًا سيئًّا يلتصق بالبطل ويتم توارثه جيلًا بعد جيل، بمعنى أنّه أصبح ينادي بـ»علي باقي»، ولم يعد أحد يذكر اسمه منفردًا، فإنّ استمرار بحثه عن الإجابة الخاطئة لا يمكن قبوله، فالموقف قد انقضى، والحلّ لا يتعلّق بإجابة هذا السؤال المطروح؛ بل يُفترض، إن كانت الإشكاليّة النفسيّة قد تجذرت على هذا النحو، أنّ البطل لم يعد يعرفها، أو، لنقل، إنّه لا يذكر أسبابها؛ فأصحاب العلل النفسيّة يكون شفاؤهم باستنهاض ذاكرتهم، واكتشاف الأسباب المخفيّة، عن طريق الجلوس معهم ودفعهم للتحدُّث حتّى الوصول إلى جذور المشكلة وحلّها، بينما نجد الراوي هنا يذكر السبب بكلّ وضوح، وينسب له الفشل الذي يعانيه؛ في وقت، يمكن قبول ذلك إن كان سقوطًا مرحليًّا نهض بعده وأكمل سيره، وهو ما لا يشير إليه النصّ الذي ذَكَر بشكلٍ واضحٍ لا لبسَ فيه، أنّ المغادرة متعاقبة ومستمرّة، تبعت هذا الموقف، في قوله: «ومنذ ذلك الحين يغادر الجميع إلّا أنا، أنتظر الإجابة الخاطئة». وهو ما يُضعف هذا الفهم ولا يسمح بالمنافحة عنه؛ فالمغادرة لم تكن لمرّة واحدة فقط، بل بشكلٍ مستمرّ، وهو ما يشير إليه فعل المضارع «يغادر».
-ومع أنّ هذا الفهم هو ما كان يريده الكاتب، في ظنّي، إذ لا يمكن فهم النصّ بطريقةٍ أخرى، إلّا أنّه لم يوفَّق في صياغته بالطريقة التي تسمح بالوصول إلى مغازيه العميقة، أو، لنقل، لم يستطع زرع السيميائيّات والشواهد الدالّة عليه بطريقة غير مكلفة، تستطيع الشريحة المستهدفة، من نقّاد متمكّنين أو حتّى قرّاء قادرين، الوصول إليها، وسبر أغوار النصوص واستنطاقها.
فالقارئ العادي، يقينًا، ليس لديه هذا الجلَد والصبر والمثابرة التي تمكِّنه من فهم قصّة كهذه، كُتبت على هذا النحو المغرِق في الطلسمة، ولا أظنّه إلّا وسيتجاوزها إلى غيرها بابتسامة ساخرة، وقد يتّخذ القرار بعدم مطالعة أيّ قصّة أخرى لهذا الكاتب.
لعلّ هذا هو ما يعيب النصوص التي لا تأخذ بيد القرّاء لفهمها وتعينهم عليها، أو لنقل، تقف بجانبهم ضدّ الكاتب؛ بل إنّ مثل هذه النصوص قد تُسبِّب عقدًا نفسيّةً لقرّائها، إذ تشعرهم بعدم مقدرتهم على الفهم، بينما يرون غيرهم يفلح في فكّ شفرتها ويفهمها، فيأخذون موقفًا منها ومن صاحبها؛ وهو ما لا يريده الكاتب الذي من أولويّاته السعي بكلّ ما أوتي من قوّة لخلق الإلفة بين القارئ ونصّه، حتّى أنّه قد يغفر لنصّه اصطفافه مع القارئ ضدّه، بل ويبارك هذا الأمر. وهذا المطلب يحتاج بطبيعة الحال قدرًا من الموازنة بين السهولة والصعوبة، بمعنى عدم المباشرة والسطحيّة، وأيضًا عدم الاستحكام والإغلاق، فكلا هاتين الحالتين لا ينتج عنهما علاقةٌ جيّدة بين النصوص وقرّائها.
-وبالعودة إلى النصّ موضوع حديثنا، فقد يُؤَوَّل بطريقة أخرى، بحيث يكون المغزى منه ليس البقاء في الصفّ وعدم الانتقال إلى الصفوف الأعلى، وإنّما الانعزال عن البشر والانطواء، وهو ما يشير إليه النصّ على لسان الراوي المتكلِّم في قوله: «عرفت الوحدة مبكرًا؛ منذ الطفولة». فهنا يمكن أن يكون قصَدَ بعدم المغادرة عدم الخروج إلى المجتمع أو الاحتكاك بالبشر، والانزواء بعيدًا عنهم؛ أي أنّه يعاني من اضطرابٍ نفسيّ يمنعه من مقابلة الناس والتحدّث معهم، جرّاءَ السؤال الذي طرحه الأستاذ وتسبّب بهذه العقدة الناتجة ربّما عن الأجوبة المفترَضة: «عليّ يبقى» أو «يبقى عليّ» أو «يبقى» التي لم يوضحها النص؛ ومع أنّ هذا الفهم التأويليّ يبدو مقبولًا، وربّما كان أقوى من سَلَفه، إلّا أنّه يُدخلنا مرّةً أخرى في دوّامة الفلسفة، إذ ليس هناك في داخل النصّ أو ضمن تركيبته البنائيّة ما يشير إلى عُقَدٍ أو اضطراباتٍ نفسيّة مَرَضيّة؛ فالوحدة أو الاختلاء بالنفس حاجةٌ بشريّة، ولا تعَدُّ عارضًا نفسيًّا إن لم ترافقها بعض السلوكيّات السيّئة، كالانقطاع كلّيًّا عن العالم، وصعوبة التعاطي مع الآخرين، ورفض الخروج مهما كانت الأسباب... وبذلك، يصبح تأويلنا هذا أيضًا موضع نظر، وقد يأتي مَن يرفضه، ولا نستطيع الإنكار عليه؛ وبالتالي سيصار إلى وصمنا بالسعي لتحميل النصوص ما لا تحتمل، وتوقُّع ما كان الكاتب يريد قوله، دون الجزم به، ما يجعلنا نقرّ بضعف النصّ من هذا الجانب، إذ إنّ كلّ التأويلات يمكن ردّها وعدم القبول بها، أو العكس؛ فالنصّ لا يملك الممانعة والقوّة التي تجعله يدافع عن مراميه، وأصبح، نتيجة هذه الكتابة القلقة، محكومًا برغبات القرّاء، دون أن يملك المقدرة على النجاة بفهمه.
-إنّ هذا النوع من النصوص لا يتحدّى القارئ بالمهنجيّة الصحيحة التي تدفعه للتعلُّق به، كما هو الحال مع النصوص الإبداعيّة التي تتمنّع على قرّائها، في وقتٍ تغريهم بالاقتراب منها ولا تفلتهم بسهولة وهي تتعمّد عدم الإفصاح عن نفسها، تمامًا كما تفعل الغانيات بمن يشتهينهنّ، إلّا أنّها تترك مفاتيح متناثرة في النصّ تجعلها تصبح بالفعل ملك قارئها متى استطاع الوصول إليها.
وعندها يستطيعان معًا الوقوف في وجه من يُنكر الفكرة التي يريدان إيصالها، حتّى أنّهما قد يتحالفان ضدّ الكاتب، وينتصران في معركة الفهم معه.
وهي الحالة الإبداعيّة التي يُسَرّ بها الكاتب ويتمنّاها لنصوصه؛ أو، لنقل، إنّها المعركة الوحيدة التي يفرح بها المهزوم أكثر من فرحه بالنصر.
-وخلاصة القول، إنّني، رغم اقتناعي بالمغزى الذي أراده النصّ في القراءة الأولى المتعلّقة بالتأخُّر الدراسيّ، أو الثانية المتعلّقة بالاضطراب النفسيّ والوحدة والاكتئاب، إلّا أنّني لا أستطيع الجزم بأيٍّ منهما، بل إنّ الكاتب نفسه لا يستطيع تحميل نصّه بأيِّ معنى محدَّد من هذه المعاني. ولعلّ معضلة الفهم هذه هي التي أشغلتني عن الالتفات إلى باقي العناصر السرديّة التي لا قيمة للقصّة القصيرة جدًّا بدونها، والتحقُّق من وجودها؛ فلم أستطع الذهاب باتّجاه استنطاق جماليّة النصّ، والتحدُّث عن باقي الوقفات الإبداعيّة التي تُقرأ النصوص القصصيّة القصيرة من أجلها، كالبداية والنهاية، والجمال اللفظيّ، والاكتناز الفكريّ والفلسفي المتعدّد الأوجه، وتوظيف اشتراطات القصّة القصيرة المتعدّدة لخلق نصٍّ إبداعيّ... وباقي الأمور التي لا يَحسن نقد النصوص بدونها، والتي، غالبًا، لا يمكن النظر إليها طالما لم نستطع فهم النصّ.
لذلك، أجد أنّه لا مفرَّ من القول، إنّ على الكاتب إصلاح ما أفسدته ذائقته ومنطلقاته الاعتقاديّة في جماليّات السرد التي - في ما يبدو - تميل كثيرًا نحو التلغيز والطلسمة، معتقدًا أنّه الطريق الأسلم للإبداع، كما يرى بعض الكتّاب المغالين في هذا الجانب، ولا أستطيع الجزم بأنّ كاتبنا منهم؛ لذا، أرجو أن يغفر لي هذه الجرأة على نصّه، فأنا على قناعةٍ بأنّ الكاتب المبدع يحتاج لمن يبصِّره بموقعه الحالي حتّى لا يستمرّ في تدوين طلاسم يصعب إقناع الآخرين بها، ويعجز هو نفسه عن فهمها.