محمد خير البقاعي
في السنة الثالثة من قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة دمشق 1979م جاء اسم الطائف في كتاب تراثي لم أعد أذكر عنوانه في خبر عجيب مروي عن ابن عباس- رضي الله عنه-، مفاده أن الطائف سميت بهذا الاسم لأن جبريل اقتطعها من الشام وطاف بها حول الكعبة ووضعها حيث هي فسميت: الطائف. وهذا ما يسمى بالأدب العجائبي.
وقرأت في كتاب «أخبار مكة» للأزرقي 1/77: بسنده قال: إنه « لما دعا إبراهيم لمكة أن يرزق أهله من الثمرات نقل الله عز وجل أرض الطائف من الشام فوضعها هنالك؛ رزقا للحرم».
وكان اسمها قد مر بي في دروس الأدب الجاهلي لأستاذنا الدكتور عبد الحفيظ السطلي- يرحمه الله- عند الحديث عن الشاعر أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان حقق ديوانه ودرسه دراسة مفصلة عميقة ورصينة؛ (ط1 1974م) عرض فيها للانتحال في الشعر الجاهلي بدراسة موثقة. وقد كان أمية من أهل الطائف، وكان أمية كما قال من ترجموا له من أكابر ثقيف وزعمائها شاعرا متألها، ذا معرفة بكتب الأولين حنيفا، وكان يعلم أنه سيكون في بلاد العرب نبي، وكان لغزارة علمه وتألهه يرجو أن يكونه. فلما بعث النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يؤمن به حسدا وناصر قريشا عليه ورثى قتلى بدر بقصيدة مطلعها:
ألاّ بَكَيْتِ على الْكِرَا … م بَنِي الْكِرَامِ أولي الممادحْ
وقيل: إنه رحل إلى الشام وتعلم التأله هناك. وهنا تعود علاقة الطائف بالشام إلى الظهور مرة أخرى. وتعود هذه العلاقة مرة ثالثة في مساري عندما عرفت في دمشق الرائد في الفكر المتفرد في الثقافة والشخصية الأستاذ الأديب عبد الرحمن بن فيصل المعمر، وهو نجدي من محبي الطائف المتيمين بها والمقيمين فيها، ولا عجب أن يحب الشام وأهلها. وكانت الطائف أول مدينة زرتها بعد قدومي إلى المملكة - الرياض عام 1417هـ/1996م. ثم زرتها ضيفا على سوق عكاظ وعرفت فيها أصدقاء من الباحثين والمؤرخين وأساتذة الجامعات أولهم التلميذ ثم الصديق الدكتور قليّل الثبيتي، والدكتور أحمد الهلالي، والأستاذ الباحث في تاريخ الطائف حماد السالمي وغيره من أكابر الباحثين. ومن الطرائف أيضا أن أول عمل تراثي أخرجته كان ديوان دريد بن الصّمة الجشمي (1980م) مصدرا بمقدمة أستاذي الدكتور شاكر الفحام- رحمه الله- (1921-2008م)، وقد سبقني إلى ذلك أحد الأدباء من الطائف بعنوان دريد بن الصمة حياته وشعره مناحي ضاوي القثامي نادي الطائف الأدبي 1398هـ، وقد علمت أن القثامي في نسبته هي تحويل من الجشمي. وقد وضع ناشر الديوان النسبتين على غلاف كتابه (مناحي بن ضاوي القثامي الجشمي). وفي عام 1999م/1419هـ أعطاني الصديق الأستاذ الدكتور يحيى بن جنيد- يحفظه الله-، وكان مديرا لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، رحلة لشاعر وأديب ومؤرخ فرنسي شارل ديدييه (1805-1864م) قام بها إلى الحجاز في إبان حكم الشريف عبد المطلب بن غالب 1854م وفيها وصف بديع للطائف والطريق إليها من جدة للقاء الشريف الأكبر وقد بذلت جهدا كبيرا في ترجمة النص وضبط أسماء الأماكن، والشخصيات، وأمضيت وقتا غير قليل بعد انتهاء الترجمة في ضبط اسم مكان ذكره الرحالة على طريق السيل وقال إنه من أبرد الأمكنة في الطائف (حزم القميع). ولما حققت كل ذلك نشرته دار الفيصل الثقافية (1433هـ/2001م) ولقي رواجا وإشادة. وصدرت طبعتها الثانية 1427هـ/2007م.
وآخر ما عرض لي مما فيه ذكر الطائف في سياق قراءاتي، ووقع في نفسي موقعا حسنا فأردت نقله لقارئ هذه الشذرات فائدة علمية حصلتها وأنا أراجع في كتاب (الجراثيم) المنسوب إلى ابن قتيبة الدينوري «276هـ» الذي حققه الأستاذ محمد جاسم الحميدي، وقدم له الدكتور مسعود بوبو ونشرتها وزارة الثقافة، دمشق في مجلدين عام 2019م.
ومؤلف الكتاب الحقيقي الذي ورد اسمه في الكتاب مرتين يسمى (أنس) ولا نعرف من أخباره ومؤلفاته شيئا إلا ما ورد في كتاب الجراثيم نفسه في رواية تنقل مناظرة له مع نفطويه (244 ـ 323 هـ). والجراثيم هنا تعني أصل الشيء فيقال: فلان من جراثيم العرب: أي من أصلهم حسبا ونسبا وجرثومة الشيء أصله. ومعناها الحديث من التطور الدلالي كما في السيارة والقطار. ولما تقدمت بي القراءة وقعت على من ينقل عنه مؤلف الكتاب باسم (الطائفي) فدفعتني قصتي مع الطائف إلى تقصي الأمر فلم أظفر بطائل. وفي سياق بحثي وجدت على موقع الوراق مقالة تعريفية باذخة عالمة دبجها الأستاذ الباحث زهير ظاظا موضحا البعد اللغوي لدور الطائفي في معاجم اللغة، ومثال ذلك المناظرة التي وردت في كتاب الجراثيم بين الطائفي ونفطويه، وانصبت على تشديد اللام في اسم العنب الطائفي المعروف بالملاّحي، وورد فيها قول الطائفي لنفطويه عدِّك لا تعرف هذا. وعرض ظاظا إلى نسبة الكتاب وانتصر للرأي القائل بأنه لأنس. وهذا ما أكده محقق الكتاب. أما بشأن الطائفي فعلق المحقق قائلا: (ومن المفيد أن نذكر هنا أنه لا يريد بالطائفي شخصا بعينه، بل مجرد نسبة للطائف)؛ قال الأستاذ ظاظا: (وأنا أعذره في ذلك، لأن الطائفي من طبقة الخليل بن أحمد الفراهيدي، لا يُعرف من أمره شيء، ولم يذكره أحد ممن اعتنى بتراجم اللغويين، ولا نعرف من أخباره إلا أنه كان أحد شيوخ النضر بن شميل (204هـ)).
وأما معاجم اللغة العربية فشحيحة كل الشح، في النقل عنه، إذ لم يرد النقل عن الطائفي في لسان العرب سوى خمس مرات، وفي تاج العروس زيادة عليها في أربع مواد، وفي تهذيب اللغة مما لم يذكراه: والخباء غشاء البُرّة والشعيرة في السنبلة ذكره النضر عن الطائفي. وفي مادة خصص: (وقال ابن شميل عن الطائفي قال: الخُصاصة ما يبقى في الكَرْم بعد قِطافِهِ العُنَيْقِيد الصَّغير، هَاهُنا وآخر هَاهُنا، وجمعها خُصاص، وهو النَّبْذُ القليل) وفي مادة رزح (النضر عن الطائفي قال: المِرْزَحَةُ: خَشَبةٌ يُرْفع بها العِنَب إذا سقط بعضهُ على بعض) وفي مادة سرم (وقال ابن شميل: قال الطائفي السُّرمانُ: ضرب من الزنابير صُفر، ومنها ما هو مجزَّع بحُمرة، وصُفرة، وهو من أخبثها، ومنها سودٌ عظام) وفي المخصص لابن سيده مما لم يذكر في المعاجم السابقة: (أبو حاتم: الفلنان زعم الطائفي أنه نسر من أصغر النسور يصيد القردة وليس البلح ولا النسر من الجوارح).
ومن الفوائد أيضا مما يتعلق بالطيور حديث الطائفي عن اليمام واحدته يمامة وهي كالحمامة إلا أنه ليس فوق ذناباه بياض وذلك الذي يفصل بين الحمام واليمام. وحمام مكة أجمع يمام. ومن ذلك أيضا قول الطائفي الحجلة طائر وردي أحمر الرجلين والمنقار، أسفع الخدين تحت جناحيه في جنبه مثل ما في جناح اليعقوب، والذكر أحسن من الأنثى وقال بعد أسطر اليعقوب طائر أغبر أسود الخدين، واللحي الأسفل أحمر الرجلين والمنقار ما تحت جناحيه يشبه العصب.
ويلاحظ هنا كما ننقله عن الأستاذ ظاظا ان ابن سيده لم ينقل ما نقله أصحاب المعاجم، من قول الطائفي، ولا أصحاب المعاجم نقلوا ما نقله ابن سيده؟! والظاهر أن للطائفي كتابا في الكرْم أي كرمة العنب افتتح ابن قتيبة كتاب الكرم في الجراثيم بقوله: (كتاب الكرم: عن أبي حاتم السجستاني حدثنا الحسن بن علي الطوسي قال حدثنا أبو سعيد الحسن ابن الحسين السكري ببغداد، قال: أخبرنا أبو حاتم، سهل بن محمد بن عمر السجستاني، قال: قال الطائفي: يقال لشجر العنب الكرم والحبل، والواحدة حبلة وكرمة).
أما ما نشره الأب لويس شيخو من فصول كتاب الجراثيم في ذيل نشرته لكتاب (فقه اللغة للثعالبي، بيروت 1885م) فهي أبواب من كتاب الجراثيم تعاون فيها مع مستشرقين آخرين وحقق فيها نسبة بعض تلك الأبواب إلى علماء مثل الأصمعي وابن قتيبة ككتاب الرحل والمنـزل ونسبه شيخو إلى ابن قتيبة.
إن ما ورد من معلومات لغوية في مقالة الأستاذ ظاظا يوضح أن الطائفي كان من علماء اللغة في القرن الثالث الهجري، وأن له كتاباً نقل عنه أنس في الجراثيم. وما نلاحظه سيطرة البيئة الزراعية والحيوانية على ما نقلته المعاجم وما ورد في كتاب الجراثيم ويشهد ذلك على علو كعب الطائفي في هذه المجالات التي تعد من بيئته ويملك فيها خبرة ضمنها مع ما عرفناه مما وصل إلينا من كتاب الكرم. وملاحظة ثانية نختم بها مفادها أن الأصول الخطية التي نشر عنها لويس شيخو الأبواب اللغوية التي أشرنا إليها مفقودة، وليس لدينا إلا المطبوع. ولم أجد تفسيرا لهذا إلا ما كنت قرأته من أن بعض المحققين في مصر كانوا يرسلون المخطوطات المنسوخة بخط واضح وجلي إلى مطبعة بولاق مع تحقيقاتهم عليها، ولم تكن الطباعة حينئذ ميسرة ومتطورة فكانت الأصول تتعرض للطمس والتلف، وعندما ينتهون من طباعة الكتاب يتلفون تلك الأصول لأنها لم تعد واضحة جلية كما كانت بسبب الأحبار التي تقع عليها أثناء عملية الطبع. فهل حدث ذلك لما نشره لويس شيخو من أبواب كتب فقدت أصولها؟