يحتوي «ارتعاش الثلج» للهايكست العراقي حميد العادلي على معظم عناصر الهايكو التي باتت معروفةً لكتّاب وقرّاء ومتذوّقي الهايكو. ما يميّز الهايكو الذي يكتبه العادلي هو تنوع التراكيب القواعدية واللغوية وتوظيف هذا التنوع في خلق عنصر مُهمّ من عناصر الهايكو ألا وهو «الدهشة»، ويذهب البعض إلى التشديد على أهمية الدهشة في الهايكو؛ إذ يقول طلحت قديح: «شهقة الدهشة... هي زبدة الهايكو». (1)
تأتي الدهشة في نهاية الهايكو تتويجاً لعلاقة «التضاد» بين عناصر عدة تكوّن المشهد في الهايكو، وقد يختلف النقاد في توصيف العلاقة بين هذه العناصر؛ إذ يسمّيها حسن التهامي «مفارقة»: «ولأنَّ المفارقة تَجاورٌ خارجٌ عمّا ألفناه من الألفاظ والأفكار المتناقضة وتقديم اللامُتوقَّع، فإنّها قادرةٌ على إحداث الدهشة». (2) بينما يطلق عليها علي القيسي اسم «تباين»: «كلُّ ما على الناقد أو المتلقّي فعله هو تباين الصور الموجودة في النص وحجم الفرق بينها والتباين الذي تركه الكاتب في النص». (3)
يكتب العادلي الهايكو من وحدتين منفصلتين من حيث التركيب اللغوي على الرغم من الاتصال البصري والشكلي بينهما (لا تفصلهما أيُّ علامة ترقيم).
أوراق الأشجار
تتعانق
الهواء يغمض عينيه
قد تكون هاتان الوحدتان غير متماثلتين من ناحية التركيب اللغوي؛ إذ يبدأ الهايكو التالي باسمٍ وصفةٍ تتلوهما جملةٌ فعليةٌ:
الفراشة الراقصة:
ترتبك قليلاً
نغمة الشلال عالية!
وقد يبدأ الهايكو باسمٍ وصفةٍ لرسم خلفية المشهد إن كان من ناحية المكان:
الكنيسة المهدِّمة
فوق أنقاضها
تزهر وردة السلام.
وقد يمهّد العادلي للمشهد بعبارةٍ افتتاحيّةٍ تدل على الزمان:
صباحٌ شتويٌّ
جدّي يختبر صوته
بنجاء الخروف الميت!
وقد يبدأ الهايكو بكلمةٍ لا تدل على الزمان ولا المكان، بل على حركةٍ في الكون تمهّد لمَشهديّةٍ تتحرّكُ فيها عناصر الهايكو الأخرى:
ازدحام
الضرير بعصاه
يتهجّأ المكان!
وبعد الكلمة الافتتاحية التي تدلّ على الحركة يرسم العادلي صورةً مضادّةً تعكسُ سكوناً في المشهد:
صراخ...
دمية الصغيرة
عالقةٌ وسط الحريق!
مطر...
على الشجرة الواحدة
سرب عصافير صامت!
ويعبّر العادلي عن هذا السكون في المشهد بلفظٍ صريحٍ: «عالقة»،
«صامت»، إلخ.
ويعكس العادلي طرفي للمعادلة في أمثلةٍ أخرى، فيبدأ المشهد بلفظٍ يدلُّ على السكون، ثم تتلوه عناصر أخرى تدل على الحركة:
صلاة
فوق أطلال المعبد المهدّم
تحلّق الفراشات!
صقيع
بخار الحفيد يعانق
دخان الجدّ!
ويذكّرُ هذا التلاعب الفنيّ بثنائيّة سكون -حركة أو ثنائية حركة- سكون باستخدام الإمام أبو الهدى الروّاس (الشاعر الصوفي العراقي من القرن الثالث عشر الهجري) لتقنيّة مشابهة في قصيدته الشهيرة:
غنّى الهزار على روض العرار بكم؟؟ فما عرفنا من المقصود بالنغم
وذا النسيم على الوادي البسيم سرى?? فما فهمنا تدلّي رقّةَ النسم
وهاجت العيس تبغي رحب ساحتكم?? فما فقهنا هزيز الركب أين رمي
يذكر الشاعر الأفعال التي تدل على الحركة في الشطر الأول من البيت: «غنى»، «سرى»، «هاجت»، ومن ثم يرسم التضاد بأفعالٍ غير حركيّة: «عرفنا»، «فهمنا»، «فقهنا»، والتضاد هنا بين الحركة الدائرة في الكون، وسكون الإنسان في مواجهة هذه الحركة، ومحاولته فهم ماهية هذا الحركة من خلال التساؤل الصامت والتأمُّل الساكن. ويتوِّج الروّاس هذه التضاد في البيت الرابع من القصيدة، فيضع كلمتين إلى جوار بعضهما بعضاً، وتدل إحداهما على الحركة والثانية على السكون:
ولم تزل في حجابٍ من جلالتكم?? ما بين مضطربٍ منّا ومنسجمِ
واللافت هنا أنَّ التضادَّ بين الحركة والسكون قد انتقل من ثنائيّة الكون (الحركة) مقابل الإنسان (السكون) ليصبح ضمن الإنسان نفسه: انقسم المسافرون في الرَّكب إلى قسمين، فمنهم من أخذه الاضطراب، ومنهم من تسمّر في مكانه وانسجم مع الكون.
ويعمد العادلي أحياناً إلى رسم التضادِّ في المعنى بوساطة خلق اختلافٍ في التركيب اللغوي للجملتين اللتين تحملان التضادَّ المعنوي:
بحنانٍ،
تقبّل الصغيرة دميتها
المراهقة تكوّر شفتيها
التضادُّ المرسوم هنا يكمنُ بين صورة الفتاة الصغيرة التي تقبّل دميتها والفتاة المراهقة التي تكّور شفتيها اشتهاءً لشيءٍ أو شخصٍ تقبّله، فهو تضادٌّ بين الصغيرة واليافعة، وبين من لديها شيءٌ تقبّلهُ وبين من تفتقد لهذا الشيء، بين الملكيّة وعدمها، بين البراءة والنضج، بين عفوية الطفولة ورغبة المراهقة، إلى آخر مدلولات هذا التضادّ، وانعكس هذا في الجملتين غير المتماثلتين أو المتناسقتين من حيث التركيب:
فعل + فاعل + مفعول به
مبتدأ + فعل + مفعول به
تبدأ الجملة الأولى بالفعل المعبّر عن عملية التقبيل، فالأهمُّ هنا الفعلُ؛ لذلك احتلَّ بداية الجملة، وإذ ينتظر القارئ شيئاً مماثلاً في الجملة التالية تأتي المفاجأة بوجود الاسم الذي يدلُّ على الشخص الذي من المفترض به القيام بفعل تقبيلٍ مماثلٍ لما هو في الجملة الأولى، ولكن تأتي الجملة الفعلية «تكوّر شفتيها» لتفتحَ باب الانتظار على مصراعيه: لماذا تكوّر الفتاة شفتيها؟ لتقبّل من؟ على عكس الجملة الأولى ذات النهاية المغلقة؛ إذ من المعروف على ماذا يقع فعل التقبيل.
ومن التقنيات الأخرى التي يستخدمها العادلي تقديم الكلمات الوصفيّة على الأسماء التي تدل عليها، ففي الجملة العربية الاعتيادية تُكتَبُ الجملة على الشكل التالي: «تذوي الأوركيدة وحيدةً في الزاوية» بينما في هايكو العادلي نقرأ:
مشتل الأزهار
وحيدةً في الزاوية
تذوي الأوركيدة!
لا يمكن للقارئ فهم دلالة كلمة «وحيدة» إلّا بعد قراءة الاسم المدلول عليه «الأوركيدة»، ويهدف هذا التأخير المكاني والإرجاء الزماني لكلمة «الأوركيدة» إلى إجبار القارئ على الانتظار حتى آخر حرف من الهايكو لكي يفهم الدلالة المعنوية لكلمة «وحيدة»، وتنتجُ عن هذا اللعب بترتيب وقوع الكلمات زيادة جرعة التشويق لدى القارئ للوصول إلى النهاية التي تخلق شعوراً بالرضى بتحقيق نتيجةٍ وهي الحصول على معنى وخلق متعة الاكتشاف بعد انتظار.
يلاحظ أيضاً استخدام العادلي لعلامة التعجب كثيراً في نهاية الهايكو لتعزيز الدهشة التي يتحصَّل عليها القارئ عند الانتهاء من قراءة الهايكو.
الجنرال المتقاعد
عصاه المذهَّبة
تنحني أيضاًّ!
أي إنَّ علامة التعجب تؤدّي وظيفةً بصريّةً لخدمة وتقوية ما قد فعلته التراكيب اللغوية في بداية الهايكو ووسطه ونهايته: التأكيد على عنصر الدهشة.
يختفي عنصر الدهشة من الهايكو المكتوب بجملة واحدة تتبع الترتيب التقليدي/الاعتيادي للجملة العربية:
لا أعرف
كيف يسابق عمري
هذا النهر الغاضب؟
يمكننا استنتاجُ أنَّ التنوع في التركيب اللغوي يفرض نفسه كشرطٍ أساسيٍّ في بنية الهايكو عند حميد العادلي لخَلق الدهشة في نهاية الهايكو. تطلق آمال بو حمام على هذه التقنية اسم «الاستثارة الصادمة»، وتقصد بها «توليد أو تخليق عنصر المفاجأة والدهشة في النص الشعري من خلال عملية الإسناد، وهذا ما فعلته قصيدة الهايكو من حيث التكثيف والاقتصاد اللغوي». (4) بمعنىً آخر يتلاعب العادلي بالكلمات ويعيد ترتيبها حتى لو خرجت عن المألوف فيما جرت عليه العادة في تركيب الجملة العربية، وذلك لبلوغ ذروة الهايكو في السطر الأخير. أي إنَّ تركيب الجملة وطريقة صفّ الكلمات في السطر الأول والثاني مسخّرتان لخدمة السطر الثالث حيث تكمن الدهشة.
هوامش
1. طلحت قديح، بين «الهايكو» والقصيدة: لذائذ الكثافة أم انشغالات الدهشة، ضفة ثالثة، العدد: 03، مايو 2023.
2. حسني التهامي، مكامن الدهشة في الهايكو، الحوار المتمدن، العدد: 6947، يوليو 2021.
3. علي القيسي، الهايكو من مترو باريس حتى بيان الهايكو في بغداد، دار نبض للنشر والتوزيع، بغداد، 2023، ص 56.
4. آمال بوحمام، جماليّة الدهشة في قصيدة الهايكو العربيّة بين الاقتصاد اللّغوي والتّكثيف الدلالي، مجلة علوم اللغة العربية وآدابها، المجلد: 13 العدد: 03، ص 953.
** **
- ماهر حرامي