عن ألطف وأجمل خيانة في التاريخ
يروى أن ضابطاً نمساوياً خان وطنه لتمكين نابليون كسب المعركة التي خاضها ضد النمسا، وحين أتى لأخذ مقابل الخيانة، رمى نابليون بصرة النقود على الأرض، فقال الضابط: ولكني أريد أن أحظى بمصافحة الإمبراطور، فقال نابليون: هذا الذهب لأمثالك، أما يدي فلا تصافح رجلاً يخون بلاده.
بعد أن نُصّب «دبلشيم» ملكاً على الهند وقع في نفسه أن يُكتب كتاباً يخلّد اسمه في التاريخ، فكتب «بيدبا» وزير «دبشليم» كتاب «كليلة ودمنة»، وهو مجموعة من القصص ذات الحكمة على لسان الحيوانات، أُعجِبَ الملك «دبشليم» بالكتاب، ووضعه في خزائن الدولة الهندية كأحد أسرار الحكمة لديها، لا يخرج منها.
وبطريقة ما علم كسرى أنو شروان بأمر الكتاب فكلّف أحد رجاله وهو الطبيب برزوية، العارف باللغة الهندية في رحلة لإحضار الكتاب، وصل «برزوية» إلى الهند وتعرف على أحد رجال الملك الهندي وكوّن معه علاقة خاصة، وأخبره برزوية بهدفه الحقيقي من الرحلة ولم يتوانَّ الهندي في تحقيق رغبته، وبعد أن تعاهدا على كتم السر، قام الهندي والذي كان بيده مفاتيح خزائن الملك، فأجابه إلى الكتاب لينتقل من كونه كتاباً هندياً خالصاً لكتاب للحضارة الإنسانية، فكانت تلك ألطف وأجمل خيانة في التاريخ، وبسببها استفادت الإنسانية واستمتعت بهذه القصص والحكم الموجودة في الكتاب.
خلّد التاريخ أسماء الجميع «دبشليم» الذي أمر بتأليف الكتاب، و»بيدبا» مؤلف الكتاب، و»كسرى أنو شروان» الذي أمر بإحضار الكتاب، و»بروزية» الذي أحضر الكتاب، وابن المقفع مترجمه إلى العربية.
شخص واحد لا نعرف اسمه، ولا ماذا حل به وهو الهندي صاحب ألطف خيانة في التاريخ، وكأن التاريخ يتعامل معه على طريقة نابليون مع الضابط النمساوي، فنابليون لم يبخس الضابط حقه المادي مقابل الخيانة، ولكن دون مصافحة لأنه لا يصافح الخونة، وكذلك التاريخ تعامل مع الهندي بما يتلاءم مع ما فعل، فخلّد القصة دون الاسم، فالخيانة تبقى خيانة.
يُعتبر الكتاب من كلاسيكيات الحضارة الإنسانية، فمؤلفه هندي، ومترجمه إلى الفارسية فارسي، ومن نقله إلى العربية فارسي آخر «رزوبة بن داذوية» والذي تسمى بعد إسلامه بـ «عبدالله ابن المقفع»، ومن أعاد إحياءه للإنسانية الفرنسي «سلوستر دي ساسي» عام 1816م بعد أن ظل فترة طي النسيان.
أما سبب تسمية الكتاب بـ «كليلة ودمنة»، فهما أسماء أخوين من بنات آوى، تمثلان أطول قصة في الكتاب فسُمي عليهما، وخلاصتها أن هناك ثوراً علق في مستنقع من الوحل فأصدر صوت استغاثة خاف منه الأسد كونه يسمعه لأول مرة، فحاول إخفاء خوفه عن رعيته، إلا أن «دمنة» لا حظ ذلك فذهب إلى الأسد وبيّن له أن الثور أضعف من أن يخيف الأسد أو يشاركه في ملكه، فقرّب بين الطرفين، حتى أصبح الثور الجليس الأهم عند الأسد، وهنا أحس «دمنة» بالغيرة فدبر مكيدة أدت إلى إعدام الثور من قبل الأسد، وما إن اكتشف الأسد أن وراء ذلك «دمنة» أمر بإعدامه أيضاً.
إجمالاً فإن «بيدبا» في الكتاب يرسل إشارات إلى «دبشليم» لديك خيارين، الظلم أو العدل، اختر ما شئت، وليكن ما تشاء هو العدل لأنه أساس الملك.
أخيراً ..
انتقل الكتاب من شرق العالم إلى غربه مروراً بوسطه، فهو هندي الأصل، فارسي النشأة، عربي الجنسية، فرنسي البعث.
ما بعد أخيراً ...
في الأسبوع القادم.
** **
- خالد الذييب