حامد أحمد الشريف
وقفاتٌ مع القراءة الكتابيّة كحلقة أخرى من حلقات الكتابة الإبداعيّة
«الإبداع يحتاج للهمم العالية القادرة على البذل والعطاء، وليس منحةً مجّانيّةً يتحصّل عليها البلداء»
بالرغم من أنّ القاصي والداني يؤمن بحقيقة أنّ القراءة مفتاح الكتابة، إلّا أنّ هناك من يشكِّك في هذه المقولة، بحكم أنّه لا يزال يكتب بطريقته السابقة ولم يتطوَّر مطلقًا رغم نهمه بالقراءة، حتّى يكاد بعضهم يصرخ بذلك قائلًا: «إنّ التنظير آفة التعلُّم، وإنّ الواقع شيء مختلف تمامًا». بالطبع هذا الأمر ليس صحيحًا، رغم أنّه يحتمل الصدق في بعض جوانبه، إذ إنّ العديد من القرّاء لا يحصدون ثمرة قراءتهم، على الأقلّ في المدى المنظور، ويشعرون بزيف هذه النظريّة الإثرائيّة، إذا استثنينا القرآن الكريم الذي يعدُّ المعلّم الأوّل للكتابة والقراءة، ومرشدًا للحياة عامّةً، ولا تنطبق عليه أيٌّ من الاشتراطات التي سنتحدّث عنها في هذا السياق؛ فبخلاف أنّه عبادة يُعَدُّ منجمًا لغويًّا وفكريًّا لا يُفقر من يعكف عليه أبدًا، مهما كانت حالته القرائيّة.
إنّ من ينقلون هذه الأفكار المتعلقة بأهمية القراءة ليسوا جهّالًا أو حاطبي ليل، بل إنَّ بعضهم يؤمن بها بالفعل، وحصد هو نتيجتها بالتغيُّر الكبير الذي يجده في كتاباته بعد ممارساته القرائيّة. وحتّى نجمع بين هذين الرأيين المتناقضين، ما علينا غير إعادة تقديم الفكرة بتفصيلاتها التي تخرج بها من فوضى السليقة غير المقنّنة وتُدخلها طور الصناعة الممنهجة المدروسة؛ ويعني ذلك أنّ القراءة، إن لم تكن وفق قواعد محدّدة، لن نجني ثمرتها، وتصبح بالفعل كمن يزور متاحف لا يعرف شيئًا عن محتوياتها، فلا تعدو زيارته أن تكون مجرّد تزجية للوقت، وصورًا تذكاريّة، ولن يحصد المنفعة الحقيقيّة التي سينالها مَن أعدّ لهذه الرحلة عدَّتها، وذهب إلى المتحف وهو يعرف عن ماذا يبحث، وماذا سيشاهد، وقيمة كلّ مشاهداته.
ينطبق الأمر نفسه على القراءة الإثرائيّة، إذ إنّ جمال المقاصد وصدقها لن يتحقّقَ المأمول منها طالما لم تُتّخذ الأسباب التي تُحقّقها وتُنزلها على أرض الواقع. وحتّى تكون استفادتنا حقيقيّة، ينبغي القول: إنّ القراءة وحدها لا تكفي، ولن تصنعَ لنا كاتبًا مبدعًا وكتاباتٍ إبداعيّة، وإن التُهمت آلاف الكتب، وإن استُخدمت المنهجيّة الصحيحة التي سنذكرها في هذا السياق؛ فالقراءة، مهما كانت قيمتها وصحّتها، إنّما هي إحدى الأسباب التي علينا الأخذ بها لتجويد كتابتنا، وليست جميعها، فهي كغيرها من المهارات تحتاج لاشتراطات إبداعيّة لا علاقة لها بالمهارة نفسها، كأن تكون قائدًا، أو أن يكون الشغف هدفًا استراتيجيًّا يحتضن إبداعاتك، أو الحاجة لخيالٍ خصب. كذلك وجود الفضول الإبداعيّ والقدرة على فرز قولك وأفكارك، واختيار ما يستحقّ أن يذاع منها وما لا يستحقّ، والاشتغال بالتفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، والتفوُّق في القدرات العقليّة بما يناسب نوعيّة الكتابة.
لا بدّ للكاتب من اختبار كلّ هذه الاشتراطات وأكثر، والتأكّد من فاعليّتها وإمكانيّة الاستفادة منها، أو إيجادها - إن كان باستطاعته ذلك - قبل التفكير في رفع الغطاء عن قلمه، ووقتها يصبح ما نقوله عن القراءة جيّدًا، فيمكن الاستفادة منها وضمان جني ثمارها. فالكتابة حالها حال كلّ المهارات التي تحتاج لأسسٍ تقوم عليها، كالألعاب الرياضيّة التي لا يمكن لمصابٍ بعاهةٍ أو إعاقة أن يمارسها كما ينبغي ما لم يتمّ معالجة هذا الخلل الذي لا تستقيم معه نظريّة التعلُّم؛ أو كمحاولة العزف على واحدة من الآلات الموسيقيّة من دون امتلاك المتدرِّب أذُنًا موسيقيّة، ونضوب مخزونه من الجُمَل الموسيقيّة المحفوظة التي تسعفه استعادة نغماتها في إنطاق الآلة التي بيده.
هذه الحالة نفسها نجدها في حلقات تأهيل مدرّبي برامج تطوير الذات، عند قبولهم كلّ متقدِّم، مع أنّ جُلَّ هؤلاء المتقدّمين يفتقرون للأسس التي لا غنى عنها لأيِّ مدرّب، ويصعب اكتسابها بالتدريب (كالقيادة أو الإمكانيّات الصوتيّة الجيّدة، أو الاتّصال الجيّد بالمتدرّبين، والقدرة على توظيف لغة الجسد للهيمنة على الموقف التعليمي والإمساك بكلّ أطرافه، وغنى المخزون المعرفيّ والفكريّ والفلسفيّ). فمثل هذه البرامج إنّما تُعنى بالمهارة نفسها التي غالبًا ما تتعلّق ببرامج تطوير الذات بكلّ تفصيلاتها، أي أنّها تنشغل غالبًا بجوانب نظريّة يدار من خلالها الموقف، ولا تلتفت للاشتراطات السابقة التي يصعب اكتسابها لمن لا يملكها في الأصل. وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على من يرغب في مزاولة الكتابة، فإن وجد في نفسه ما يجعله قادرًا على الإتقان - وإن في حدّه الأدنى - يمكننا أن نمضي معه ونرشده، وإلّا، فلا جدوى يرجوها من استكمال قراءة هذا المقال، وننصحه بالتوقُّف هنا.
ربّما تكون القراءة الكتابيّة مُصطلحًا يعبِّر بالفعل عن الأسلوب الأمثل للقراءة الإثرائيّة المتعلّقة بتجويد كتابتنا، كون الإثراء القرائيّ يتّسع ليشمل عدّة جوانب متخطّيًا الكتابة، لا سيّما أنّ القراءة بابٌ من أبواب المعرفة المطلّة على كلّ العلوم، بينما هذا المصطلح يقتصر على توظيفها للكتابة الإبداعيّة، ويجعلنا نقرأ من أجل أن نكتب. فالقارئ العاديّ عادةً ما ينشغل بالمحتوى العامّ، وقد تستهويه حكاية شيّقة، أو تاريخ، أو أفكار وفلسفات... ولا يلتفت لغيرها. وبذلك تغيب عنه كلّ التفاصيل الصغيرة التي يحتاج الكاتب أن يطّلع عليها ويقلّدها لاحقًا. إنّ هذا النوع من القراءة السريعة لا يستفيد منه الكاتب مطلقًا، فهو - على سبيل المثال - لا يلتفت إلى التراكيب اللغويّة وجمالها أو سوئها، ولا إلى سياق الفكرة وطريقة عرضها وتناميها، وقد لا يقف عند العقدة وحلّها وربطها... كلّ هذه المهارات الكتابيّة، إن لم نستهدفها بقراءتنا ونضعها في حسباننا مبكّرًا، سيصعب علينا أن نلمَّ بها ونستفيد منها.
لذلك، ينبغي على القارئ الحصيف أن يضع في حسبانه كلّ ما سبق ذكره من أمور تثقيفيّة، تضاف إلى استمتاعه بالعمل الإبداعيّ، من دون أن يفوته التأكّد من أنّ الكتب التي يختارها تستحقّ ما سيبذله من جهد لمطالعتها؛ فالكتب، كما يذكر لنا «ساموئيل جونسون» في عبارته الشهيرة، هي «كالأصدقاء، لا بدّ أن يكونوا قليلين ومنتقين بعناية». وأظنّ أنّ كثيرين منّا يذكرون تلك العبارة الشهيرة التي لا نعرف مصدرها تحديدًا، ولكنّها جرت مجرى المثل، ونستحضرها دائمًا في حديثنا عن القراءة، عندما نقول: «قل لي ماذا تقرأ لأقول لك من أنت». كلّ ذلك يرشدنا إلى أنّ القراءة، وإن كانت هدفًا، لها اشتراطات متعدّدة؛ فليست كلّ الكتب جديرة بالمطالعة، بل إنّ بعضها كالصاحب السيِّىء الذي وصفه رسول الهدى بأجمل وصف وهو يحذرّنا منه في حديث أبي موسى الأشعري: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنّما مَثَل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يُحْذِيك، وإمّا أن تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه ريحًا طيّبة، ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك، وإمّا أن تجد منه ريحًا منتنة}، متّفق عليه. والكتاب - يقينًا - لا يختلف أبدًا عن هذا الوصف النبويّ البليغ، فهو إمّا جليسٌ صالحٌ أو جليسُ سوء، وفي كلتا الحالتَيْن سيترك أثرًا عليك؛ فمطالعة الكتب السيّئة في كتابتها، لو لم يكن لها من أثر سوى دفعك للإيمان ببعض الأساليب الكتابيّة السيّئة لكفى، وإن كانت لن تتوقّف عند ذلك فهناك الكثير من الويلات التي من الممكن أن تجرَّها مثل هذه الكتب، وسيكون تأثيرها ممتدًّا، يشمل اللّغة السيّئة، والأفكار المشوّشة، والأجناس الأدبيّة المشوّهة. ولعلنا نقول: إنّ مثل هذه الكتب لن تتركك على الحال التي أتيت بها، وإن لم تشعر بذلك. ولا يستثنى من هذه القاعدة إلّا مَن كان معنيًّا بهذا الأمر، ووصل إلى مرحلة من النضج بحيث يستطيع تصفُّحَ كلّ أنواع الكتب وفرزَها، وتبيّنَ صالحَها من طالحِها، حتّى إذا ما سُئِل عنها أجاب بكلّ ثقة وعن فهم. أمّا من كان في طَور التعلُّم ولم يصل بعد إلى مرحلة النضج الكتابي أو القرائي أو الأدبي، ولم يكن في موقع يتطلّب تصفُّح كلّ أنواع الكتب، فإنّه مأمور بالانتقاء، نزولًا عند الوصف البديع الذي ذكره أبو الطيّب المتنبّي مطريًا فيه الكتاب، في قوله:
أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ
وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ
فكيف يكون الكتابُ خيرَ جليس ونحن لم نتأكّد من قيمته ومن الإضافة الحقيقيّة التي قد نجنيها من ورائه؟ وفي كلّ الأحوال، علينا - إن ابتغينا الفوز والنجاة - اختيار الكتاب الذي سنقرأه، بعناية، واضعين في حسباننا ما سنجنيه من قراءته؛ فعندما يكون هدفنا بنائيّة العمل من حيث اللّغة بكلّ تفصيلاتها، فإنّ علينا اختيار الكتاب الذي يحقّق لنا هذه الغاية، وهي غالبًا ما تنحصر في المكتبة العربيّة في كتّاب معروفين، اشتهروا بكتاباتهم الإبداعيّة المميّزة. ويفضَّل أن يتمَّ اختيار هؤلاء الكتّاب ممّن يتوسّطون في توظيف اللّغة، ويتبسّطون في تراكيبها، فيجمعون بين الجَوْدة والبساطة؛ فبعض الكتابات، رغم قيمتها، لا تصلح لهذا الجيل الذي لم يعد يُلمُّ إلّا بحفنة قليلة من المفردات، ويجهل كيفيّة تصريفها.
ولا بدّ من التدرّج في اختيار الكتب، وصولًا إلى كبار الكتّاب الذين ينبغي لمن أراد الإبداع الحقيقيّ المرور بكتاباتهم، على صعوبتها. وكما هو معلوم، فإنّ التحدّيات الكبيرة، إن خضناها في وقتها، توصلنا إلى القمّة التي ننشدها. كما ينبغي، لمن أراد تعلُّمَ الكتابة الإبداعيّة، أن لا يتوقّف عند نوعيّة المحتوى المحبَّب له، فالكلام هو بغيتنا. ومن المفضّل في هذه المرحلة الجمع بين جودة الكتابة والمحتوى المرغوب، إن استطعنا، حتّى لا نتجرّع القراءة كالدواء الذي لا نستسيغه ونُجبَر عليه بحثًا عن الشفاء. فالكتب المحبّبة إلينا، والقريبة من اهتماماتنا ا لقرائيّة، سيكون لها بالتأكيد تأثير أكبر، لاعتمادها على منهجيّة التعليم بالترفيه التي تعدّ من أجود أنواع التعلُّم المعروفة عالميًّا، وبالتالي، لن نشعر بالملل في قراءتنا، بل تكون استفادتنا منها كبيرة.
وعندما تكون «الأسلوبيّة» والبحث عن المعاني والغايات والصور الشاعريّة وباقي العناصر التي نختبرها في هذه المدرسة النقديّة الحديثة، هي هدفنا من القراءة، علينا أن نتوجّه نحو كتب السرد العربي للساردين الكبار المعروفين، كوننا سنجد لديهم ما نصبو إليه. وتأتي بدرجة أقلّ كتب السرد المترجمة، بسبب وجود وسيط بين الكاتب والمتلقّي، ولا نعلم إن كان وسيطًا جيّدًا استطاع بالفعل نقل كلّ إبداعات الكاتب أو ضاع منه شيء في الطريق. وفي كلّ الأحوال، إذا تعلّق الأمر باللّغة بكلّ تفريعاتها، من الأفضل للمتعلّم مطالعة الكتب بلغتها الأمّ، إذ إنّه مهما كانت درجة إتقان المترجم، لن تكون الكتب المترجمة بقيمة الكتب الأمّ. مع ذلك، لن نستبعدها كلّيًّا، بل نضعها في المرتبة الثانية؛ فالمعاني وعمق النصّ والصور المختلفة قد لا يضيع الكثير منها مع الترجمة إن كان المترجم متمكّنًا وحصيفًا وصاحب خبرة بالأدب الغربي وباللّغة الأمّ التي ينقل عنها، خلاف لغته العربيّة، على مثال منير البعلبكي، المترجم اللبناني العريق والمعروف بشيخ المترجمين، وقد ارتبط اسمه بروائع الأدب الغربي القديم، مثل: البؤساء و»كوخ العم توم»، و «أوليفر تويست» و»المسخ»... وألّف بعض الأعمال الموسوعيّة كالمعاجم اللغويّة، أشهرها: «موسوعة المورد». ومن هؤلاء المبدعين أيضًا صالح علماني، المترجم الفلسطيني الذي ارتبط اسمه بالعديد من الروايات العالميّة، كـ»مائة عام من العزلة» و»ساعي بريد نيرودا» و»حصيلة الأيّام». وأيضًا، خالد الجبيلي، المترجم السوري المعروف، وفي جرابه أكثر من 45 عملاً أدبيًّا قام بترجمتها إلى اللّغة العربيّة، أبرزها: رواية «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل، و»لوليتا» لفلاديمير ناباكوف، وَ»زوربا اليوناني» لـ نيكوس كازانتزاكيس... وبالطبع القائمة تطول بأسماء المترجمين، حيث نجد الأعمال القديمة السابقة نفسها مذيّلة بأسماءٍ أخرى، ومنهم - بالطبع - من استطاعوا وضع بصمتهم وبرعوا في هذا الميدان، والمجال لا يتّسع للمرور عليهم جميعًا، لذا نكتفي بالعيّنات الإبداعيّة التي ذكرناها.
بقي القول: إنّه علينا، إن أردنا توظيف القراءة في العمليّة الكتابيّة مستهدفين الجنس الأدبي نفسه، الذهاب مباشرة إلى مَن برعوا في هذا المجال، دون التوقُّف عند لغة الكتاب إن كانت أصليّة أو مترجمة؛ فإن أردنا، على سبيل المثال، تعلّم أصول الرواية أو القصّة وأساليبها، والتعرُّف على دهاليزها، والاطّلاع على مدارسها المختلفة (كالروسيّة والإنجليزيّة والأمريكيّة والجنوب أمريكيّة وحتّى الإفريقيّة واليابانيّة) علينا الذهاب أوّلاً باتّجاه من برعوا في هذا المجال وأسّسوا له، وليس ذلك عيبًا كما لا يُعتبرَ تحيّزًا للثقافة الغربيّة؛ فالرواية أو القصّة إنّما هي جنس أدبيّ مستحدَث، ظهرت بشكلها الحالي في القرن الثامن عشر تقريبًا، وإن كانت جذورها موغلة في القِدَم، ولكنّها - يقينًا - لم تكن بالصورة التي هي عليها الآن. والشاهد هنا، أنّ الغربيّين هم من وضعوا قواعدها وأخرجوها لنا بالصورة التي عرفناها وأحببناها، وكلّ العرب الذين كتبوا في هذا الجنس، إنّما كانوا امتدادًا لجيل العمالقة الغربيّين، وحاولوا بداية تقليدهم، قبل اتّخاذهم خطًّا إبداعيًّا مستقلًّا، بدءًا برواية «زينب» للكاتب المصري المعروف «محمد حسين هيكل»، وصولًا إلى نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغسّان كنفاني... وباقي الأسماء العظيمة المعروفة، التي برع أصحابُها وطرّزوا أسماءَهم بمدادٍ من ذهب، وأصبحنا نستطيع التعلّم بالقراءة لهم أيضًا.
ولكن، رغم كلّ ذلك، تبقى الرواية الغربيّة هدفنا الأوّل إن أردنا تعلُّم فنون السرد، وبعدها يمكننا مطالعة الإنتاج العربي في هذا المجال...في كلّ الأحوال، علينا توخّي الدقّة في اختيار الأعمال التي نستفيد من قراءتها، والبعد، بطبيعة الحال، عن ملخّصات الروايات العالميّة، فهي أكثر ما يشوِّه الأدب، ولن نجني من ورائها أيَّ فائدة تُذكر، بل قد تكون هي السبب في تشوُّه ذائقتنا. بالطبع يمكن القياس على ذلك في مختلف الأجناس الأدبيّة التي عادة ما تكون بلغتنا العربيّة، وأسماء كتّابها العرب معروفة، فعلينا انتخاب أجودها لقراءته والتعلّم منه، مع ضرورة العودة إلى الأصول في بداياتنا، والابتعاد عن كلّ مستحدث في الفنون الأدبيّة، كالشعر، الذي لن يبرع فيه - في ظنّي - مَن لم يمرَّ بالشعر العمودي، ويقضي منه وطره، قبل تجاوزه إلى باقي الفنون الشعريّة، كشعر التفعيلة. وهي الحال نفسها التي نجدها مع القصّة التي لن يتقن كتابتها مَن ذهب مباشرة إلى قصّة الومضة ولم يكتب القصّة التقليديّة بكلّ اشتراطاتها، تمامًا كحال من تجاوز المدرس ة الواقعيّة في الفنون التشكيليّة التي يعدّها أغلب النقّاد نقطة الانطلاق في تعلُّم الرسم قبل الاتّجاه نحو أيّ مدرسة أخرى.
الآن وقد أحسنّا اختيار الكتاب الذي نريد قراءته، علينا التنبّه لبعض الأمور المهمّة، من ذلك، عدم القراءة مطلقًا إن لم نكن مهيَّئين نفسيًّا وبدنيًّا وفكريًّا ولدينا الشغف الكبير للمطالعة؛ فالقراءة بهدف تعلُّم الكتابة ليست تزجية للوقت، وإنّما يُشترط لها صفو الذِّهن، واستعداده لها، ورغبته فيها، مع تخصيص وقتٍ مثاليّ لها، إذ لا ننصح مطلقًا بإمساك كتاب إن كان هناك ما يشغلنا من أمور الحياة المختلفة ومشاكلها، ممّا يوقعنا تحت ضغوط نفسيّة أو إشكاليّات من أيّ نوع؛ فالقراءة في أوقات كهذه، لن يَلصق منها في أذهاننا شيء، مهما حاولنا، بل ستكون قراءةً عبثيّةً لا فائدة تُرجى منها، وقد تزيد من حالة الارتباك التي يعيشها القارئ، وتُؤخِّر استشفاءَه منها. لذا، من الأفضل الخروج من هذه الحالة أوّلًا بأيّ طريقة كانت، ومن ثمّ العودة إلى المطالعة، وإن طالت فترة الانقطاع؛ فالقراءة الإبداعيّة إنّما تعتمد على كيفيّة ممارستها وليس على كميّة الكتب التي نقرأها.
من الأشياء المهمّة أيضًا، ضبط السرعة، إذ ينبغي للمتعلِّم إبطاء قراءته بقدر ما يستطيع، فاستفادتنا الحقيقيّة من القراءة تقتضي المرور على كلّ حرف مكتوب، كما ينبغي التعمُّق في الأفكار، وسبر أغوار النصوص، باعتبارها بحرًا مليئًا بالغرائب والمُشهِّيات التي نحتاجها جميعًا. ولعلّنا نستذكر هنا ما قاله الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم في شأن اللّغة، عندما شبّهها بالبحر، في قوله:
أنا البحرُ فى أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ
فَهَلْ سَأَلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتي؟
هذه الحالة التي وصفها إبراهيم للّغة العربيّة تتطابق مع ما نتحدّث عنه، فالكتب - حاضنة اللّغة - هي ذاك البحر الغنيّ بالثروات، لذا لا ينبغي قراءتها بسطحيّة، وإنّما علينا الغوص في عمق معانيها لنستخرج ما ينفعنا منها.
ومن الأشياء التي لا غنى لكلّ قارئ عنها، التركيز العالي الذي يقتضي عدم الانتقال من صفحة إلى أخرى إلّا وقد أوفاها حقّها من التمعّن والتفحّص والاستكشاف، وتدوين كلّ ما يتحصّل عليه خلال هذه القراءة الإبداعيّة، أكان ضمن حواشي الكتاب أم على أوراق أو في دفتر ملاحظات، المهمّ أن لا ينتقل من الصفحة إلّا وفي يقينه أنّه لم يترك شاردة ولا واردة تستحقّ التوقُّف عندها إلّا وتوقّف، وفكّر فيها مليًّا، ودوّنها، وأدار عصفًا ذهنيًّا مع نفسه حولها؛ فالأفكار والفلسفات والتقنيّات الكتابيّة المتعدّدة ترسَّخ بهذه الطريقة، وإن كانت متعِبة، وبقدر اجتهادنا في هذا الأمر تتحقّق الفائدة التي نرجوها.
نحتاج كذلك في رحلتنا مع القراءة الكتابيّة إلى اهتمام كبير بالمفردات الجميلة المعبِّرة والموظَّفة بشكلٍ جيّد، فهذه ينبغي منحها اهتمامًا مستقلًّا عن باقي الأشياء الأخرى، وهي من الأمور التي نستهدفها بالقراءة بالدرجة الأولى؛ فالقارئ الواعي يجتهد في زيادة مخزونه (أو قاموسه) من المفردات والعبارات والجمل الإبداعيّة، ويعتبر الكتاب الجيِّد منجمَ ذهب.علمًا أنّ هذا الأمر قد يحدث عادة من دون إدراكٍ منّا، فنجد أنفسنا، مع مداومة القراءة، نستخدم مفرداتٍ وتراكيبَ جميلة. إلّا أنّنا، ونحن نتحدّث عن الصناعة، لا نريد فوضى التغيير غير المقنّن، بل نريد رعاية هذه التغيّرات، واستهدافها، وزيادة حصيلتها، والتأكُّد من حدوثها بالمنهجيّة التي ذكرناها هنا؛ فتدوين هذه المفردات والتفكُّر في معانيها، والوقوف مطوّلًا أمام طريقة استخدامها، والبحث عن الأوجه الأخرى التي يمكن أن تتّخذها... كلّ ذلك يثرينا لغويًّا، ويقوِّم ألسنتنا، ويمتدّ أثره بحيث يتجاوز الكتابة إلى القدرة على الحديث، والظهور الإعلامي الجيّد الذي ينبغي أن يواكب الكاتب ويضيف إلى قيمته الأدبيّة.
الآن وقد انتهينا من كلّ ذلك، نذهب باتّجاه الجنس الأدبي المستهدَف الذي يحتاج لاستعداداتٍ سابقة قبل خوض غماره، بغية اختبار بعض الأساليب والقواعد التي يحتاجها، وذلك من خلال مطالعة الكتب التي تتحدّث عن أساسيّات الأعمال الإبداعيّة المستهدفة؛ فمَن يقرأ قصّة لا بدّ أن يكون مطّلعًا، وإن بالحدّ الأدنى، على اشتراطات القصّة وقواعدها وفنونها المختلفة، فتترسّخ في ذهنه هذه المعلومات النظريّة، ويستفيد منها في قراءاته، ويختبر من خلالها كلّ التقنيّات السرديّة التي تعلّمها؛ فنجده يبحث أثناء القراءة عن الاختزال والتكثيف، ويحاول إدراك أهمّيّتهما وربطهما بالسّرد، ويستوضح كذلك أهمّيّة البداية والنهاية، أو الترابط السرديّ، كما يحاول فهم العقدة وكيفيّة ربطها وحلّها، والعثور على الصور الشاعريّة، والطريقة المثلى لتوظيفها، أو محاولة اكتشاف سرّ السهولة والصعوبة الإبداعيّة، وإدراك الفرق بين ذكاء الكتابة وسذاجتها بالدخول إلى عمق النصوص وتخطّي مظاهرها السطح يّة، ودراسة العلاقة الإبداعيّة بينهما. إذًا، نحن نحتاج في مسلكنا نحو تعلُّم الكتابة الإبداعيّة إلى معرفة كلّ هذه التقنيّات المعنيّة بتعليم السرد وتبسيط قواعده وتشريعاته.
إنّ دخول القارئ على الأعمال بهذه المنهجيّة الإبداعيّة يحقّق له استفادةً كبيرة؛ فالمدرِّبون، وكذلك الكتّاب المنظِّرون، لا يستطيعون غالبًا استحضار كلّ الشواهد التي تؤكِّد نظرّياتهم، مكتفين ببعض الأمثلة البسيطة، بينما نجد ما هو أقوى منها في مطالعاتنا المتعدّدة. تحضرني هنا فكرة جميلة للكاتب والناقد السعودي الدكتور خالد الرفاعي، تتعلّق بهذه القراءة النخبويّة، وقد ذكرها في إحدى تغريداته على موقع التواصل الاجتماعي «X» («تويتر» سابقًا)، قال فيها: «لا تقف في القراءة عند (فهم الكتاب)، بل حاول الاشتباك مع أفكاره الرئيسة ووثّق حوارك معها في الكتاب نفسه، على شكل نقاط مختصرة»، واستطرد مذيّلًا عبارته الأخيرة تحت عنوان «هامش»، قائلًا: «القراءة لا تكتمل مع قارئ بل سياق، بلا ذاكرة، بلا تجربة!» انتهى حديثه.
أظنّ أنّ الدكتور الرفاعي أوجز هنا كلّ ما قلناه حول القراءة الإبداعيّة، ووصفَها وصفًا غاية في الروعة، عندما طالبنا أن لا ننظر للكتاب ككتلة واحدة، بل ينبغي تجزئته والنظر في كلّ جزء على حدة؛ فغاية القراءة حسب وصفه الجميل، ليس فهم مجمل الكتاب، بل الوقوف عند أفكاره، والدخول في صراعٍ معها. ويعني بذلك عدم التسليم لهذه الأفكار، بل محاولة اختبارها والتأكُّد من قيمتها، ومقاربتها مع القناعات والأفكار التي لديك، قبل اتّخاذ قرارك النهائي باعتناقها أو تجاوزها والردّ عليها. والجميل تعريجه على فكرة تدوين الملاحظات التي سبق أن ذكرناها، باعتبارها نقطة مهمّة، وهي بالفعل كذلك؛ فالقارئ الذي لا يدوّن، غالبًا ما تكون استفادته محدودة جدًّا.
هذه التقنيّات القرائيّة المختلفة إنّما تهدف إلى استفادتنا الحقيقيّة ممّا نقرأ، ومحاولة الانطلاق من تقليد الكتابات الجميلة، ومحاكاة الكتّاب الكبار في كتاباتهم النخبويّة، قبل وصولنا إلى التفرُّد والأصالة الأسلوبيّة التي نبحث عنها والتي لن نصلها إن لم نتخطَّ هذه المرحلة بنجاح. ومع أنّ هذا الأمر قد يبدو صعبًا وغير واقعيٍّ إلى حدٍّ ما لمن لم يجرّبه بعد، إلّا أنّنا مع التكرار والمداومة على هذا النهج القرائيّ، سنجد أنّنا لا نحسن القراءة إلّا بهذه الطريقة، وهي على كلّ حال ضريبة لا بدّ أن ندفعها، فالإبداع يحتاج للهمم العالية القادرة على البذل والعطاء، وهو - يقينًا - ليس منحةً مجّانيّة للبلداء.