د.خالد بن صالح المنيف
(ستيف رينيموند) رجل عصامي حقق العديد من النجاحات المميزة والقفزات المهنية والشخصية الهائلة، تدرَّج من وظيفة حارس في البيت الأبيض, وانتهى المطاف به مديراً تنفيذياً لشركة ببسي, ولك أن تخمّن ما هو الإنجاز الذي يفتخر به؟
هل كان عصاميته؟
أم كان تدرجه السريع وقفزاته المهنية المذهلة؟
أم مساهمته في رفع أرباح ببسي إلى 9 مليارات؟
أم دوره الفاعل في رفع القيمة السوقية لشركة ببسي لأكثر من مائة مليار دولار!
رجل بلغ الغاية العليا وظيفياً والنهاية القصوى وجاهة، والعجيب أنه لم تكن كل هاتيك الإنجازات موطن فخره!
ودونك ما كان يفتخر به (ستيف):
في صبيحة يوم غائم ساكن الريح، وبينما كان (ستيف) المدير التنفيذي لشركة ببسي في مكتبه يحتسي قهوته الصباحية ويطل عبر نافذته مستمتعاً بمنظر تلك الحديقة الجميلة مترامية الأطراف والتي اقتطعت مساحة كبيرة من فناء الشركة، جاء رنين الهاتف ليقطع حاجز الصمت الرهيب الذي خيّم على أرجاء المكان!
فمن يا عساه يتصل في هذا الوقت المبكر من اليوم؟
التقط سماعة التلفون وأجاب!
فمن كان يا ترى هذا المتصل!
أبعد شخص يتوقع اتصاله.. لقد كان المدير التنفيذي لشركة كوكاكولا!
العدو اللدود والخصم العنيد والمنافس الوحيد!
والذي تلقى صاحبنا بلسان عذب رقيق وتحية لطيفة جميلة!.. ومدير كوكاكولا لصاحبنا شكر كبيرا وأبدى تقديرا بالغا على الخدمة العظيمة والتصرف الحضاري والسلوك الراقي التي قدمها لها المدير التنفيذي لشركة ببسي!
والذي علت على محياه دهشة كبيرة واستغراب كبير! فهو لا يذكر أنه قد تواصل معه أو تحدث معه فضلاً على أن يكون قد أسدى له خدمة!
فاستوضح منه الأمر، فذكر له أن مجموعة من الملفات المهمة بالغة السرية والتي تخص شركة كوكاكولا قد أرسلت بالخطأ إلى شركة ببسي! فما كان من موظفي ببسي إلا أن أعادوا تلك الملفات دون فتحها موقناً بأن هذا التصرف بإيعاز من ستيف وهو الأمر الذي ما سمع عنه في الأصل!.. وبعد انتهاء المكالمة من المتنافسين لقسم المسؤول واستفسر عن الحادثة, فأكدها له مدير القسم، وبين أن الملفات وصلت وأعيد أرسالها للشركة المنافسة مباشرة ولا يعلم بهذا الأمر إلا هو والموظفة التي استلمت الملفات! لقد كانت من أجمل المكالمات التي تلقاها (ستيف).
كان هذا الموقف هو مثار فخر ستيف بعد استقالته من ببسي عندما يُسأل عن أهم إنجازاته، فكان يتباهى بهذا الموقف، ويقول: أعظم إنجازاتي هو أنني نجحت في زراعة القيم الجميلة في من حولي! قصة قرأتها للكاتب الهندي الرائع (براكاش آير) وفيها من الفوائد الكثير ومنها:
1 - دور القائد والأب الحقيقي يتمثَّل في زراعة القيم وليس في تحقيق الإنجازات والركض خلف الأهداف فحسب ودلالة نجاح زراعة القيم ورسوخها فيمن حولك هو انعكاسها على تصرفاتهم في غيبتك وحضورك, الأب العاقل والقائد الناجح هو من يستثمر المشاهد ليزرع فيها قيمة ويرسخ فيها مبدأ, وأن لا يكن همه تحقيق مكاسب زهيدة على حساب القيم والمبادئ!
2 - بعض المكاسب صغيرة ولذتها مؤقتة والاستمتاع بها لا يدوم؛ فلو أن الملفات فتحت, فماذا عساها النتيجة؟! ربما تحقق الشركة شيئاً من المكاسب حينها, ولكن جزماً ليس بحجم الأثر البالغ الذي سيخلفه ذلك التصرف الجميل في نفوس أصحابه وفي نفوس زملائهم، فقيم الإنسان الحقيقة هي تلك المعتقدات التي تصف عن روحه وما أروع ما قاله الرئيس الأمريكي: عندما أغادر البيت الأبيض أود أن احتفظ بصديق واحد فقط وهو الصديق يكمن في داخلي!
3 - الأزمات تكشف المعادن والشدائد تجلي الأخلاق؛ فلم يتردد الموظفون في إرسال الملفات لشركة كوكاكولا وبكل أريحية رغم كونها بالغة الأهمية والسرية!.. ومن المألوف أن يظهر من المتنافسين والأقران والخصوم إمارات الغدر ولوائح المكر!
4 - وفرق بين من يعمل الخير بقناعة وبين من لا يصيب إلا مخطئاً ولا يحسن إلا ناسياً ولا يسخو إلا كارهاً ولا ينصف إلا خائفاً!
5 - من لطائف القصة أن الموظفين لم يترددا في التصرف ولم يستشيرا مديراً ولم يسألا مسؤولاً، بل اتخذا القرار مباشرة ودونما تردد! إن من لا يملك قيماً يتيه في مراكب الحياة كثير التردد عظيم الاضطراب كل عاصفة تهديداً لهم وكل موجة عاتية قد تغرقهم خلاف صاحب القيم قرارات منضبطة وأرضه صلبة حتى عندما تنهار الأراضي حوله!
6 - العجيب في هذه القصة أن الأمر بقي سراً؛ فلم يخبر الموظفان أحداً بما حصل! ولو أرادا لأذاعا الخبر لكسب مجد أو تلقي ثناء!.. بل سرى المشهد بهدوء وسلاسة؛ لأنهما كانا يؤمنان بأن ما فعل أمر بدهي واجب عليهما ولا منة لهما فيه.
7 - رسالة لكل من يتقفى أخبار الآخرين ويتقصى آثارهم ويعد أنفاسهم أن يخجلوا على أنفسهم!.. فالبعض وصل لمرحلة استجلاب أخبار البيوت عن طريق الصغار والخدم فقط بلا أدنى مصلحة سوى إشباع فضوله، وهذان الموظفان رغم الفائدة التي ستجنى كانا صامدين ولم يستجيبا لضغوط المنافسة.
8 - حفظ الجميل وشكر المعروف من طبع الكرماء، فلم تصد رئيس كوكا كولا تلك المنافسة والعداء المستحكم على أن يتواصل مع مدير ببسي ويشكره على ما حدث ولسان حاله: يسعنا أن نتنافس باحترام.
وأخيراً ينصحك جون سي ماكسويل إن أردت أن تحيا سعيداً وأن تبقي أثراً جميلاً أن تتعرف على قيمك، ثم اتخذ قراراً بتبنيها وممارستها يومياً!.. وأقول إن صاحب القيم حسن الذكر طيب الذكر.
ومضة قلم
ربما أنهى الرجل الصالح السباق في المرتبة الأخيرة، ولكنهم انتصروا في سباق مختلف!