د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
لا ريب أن السنة والشيعة في العالم العربي يرون أنفسهم في مواجهة بحر متلاطم بأمواج الفتن والحروب، والخطر يهددهم جميعاً لأنهم يبحرون في مركب واحد.
هذا المركب الذي يجمع السنة والشيعة العرب مصنوع من عناصر الجغرافيا والثقافة والتاريخ. وأقصر الحديث على المشرق العربي. فأما الجغرافيا فلا حاجة لأكثر من النظر إلى الخارطه لإدراك التلاحم بين شعوب ودول هذه المنطقة الجغرافية. وأما الثقافة فيكفي التذكير بروابط اللغة والدين والآداب والفنون المشتركة، والخصائص الاجتماعية المشتركة، بل والانتماءات القبلية. أما التاريخ فقد كان مشتركاً أيضاً - ليس فقط بين دول المشرق العربي، بل على نطاق أوسع في الشرق الإسلامي. ولكنه في أحيان كثيرة - أي في بعض المناطق وفي بعض الحقب الزمنية - كان تاريخاً مصبوغاً بالدماء والاشتباك في معارك الصراع على الحكم، بأسلحة طائفية: مذهبية أو عرقية أو قومية. رأينا ذلك في فتنة مقتل عثمان (رضي الله عنه) وفي معركة صفّين وفي الحروب المتتالية مع الخوارج. وحتى عندما اتخد الصراع مظهراً طائفياً بين الشيعة والسنة بعد مقتل الحسين (رضي الله عنه) في معركة كربلاء، فإن أهدافه في الحقيقة كانت سياسية، وتتلخص في استعادة حق الإمامة. وفي خضمّ صراع المذاهب الإسلامية الذي كان وقوده - صدقاً أو تظاهرياً - التعصب للمذهب، تكون السيادة للمذهب الذي ينتزع أصحابه السلطة ؛ وأحياناً يدفع التعصب للمذهب إلى موالاة طرف خارجي للاستقواء به على الخصوم من المذاهب الأخرى. وقد عاصرت شعوب الشرق الإسلامي - ومنها شعوب المشرق العربي- على مرّ التاريخ الممتد من أواخر عهد الدولة الأموية حتى يومنا الحاضر صراعات صغيرة وكبيرة وحروباً مدمرة، يصعب فيها التمييز بين الخلفية المذهبية أو العرقية أو القومية التي تؤجّج الصراع، وإن كان الهدف واضحاً، وهو انتزاع السلطة. وأوضح الأمثلة على ذلك صراع السلطة بين الأمويين والعباسيين، ثُمّ بين البويهيين والسلجوقيين، وبين الفاطميين والأيوبيين، و بين القرامطة (وهم خليط من قبائل عربية يقودهم حمدان بن قرمط من عربستان (المنشق عن الحركة الفاطمية) وبين الدولة العباسية الضعيفة آنذاك. ثم الصراع الأكبر بين الصفويين والعثمانيين، وكذلك بين الصفويين بعد استيلائهم على إيران وبين سكانها السنة. ثم ما نراه الآن من صراع في العراق وسوريا ولبنان وفي اليمن أراد صانعوه من حكومات وتنظيمات إرهابية ومتطرفة أن يأخذ الطابع الطائفي. صورة تاريخية عندما نتطلع إليها بكاملها لا نرى إلا صراعاً على الهيمنة والسلطة، يتخذ صانعوه من اختلافات المذاهب وتعصب أصحابهوتأويلات المنظّرين المتطرفين مبرراً لإثارة الصراع ووسيلة لفرض الهيمنة. وفي حين أن العقيدة الحقة النقية واحدة لا اختلاف في أصولها، ظهر الاختلاف في فروعها، فانصرف اهتمام بعض أصحاب المذاهب إلى الفروع وأنزلوها منزلة الأصول، بحيث صارت محاربة المخالف المنكر لتلك الفروع مثل محاربة المخالف المنكر للأصول. هل استفاد العالم الإسلامي - ومنه المشرق العربي- من تلك الصراعات والحروب شيئاً غير فراغ حضاري و(قابلية للاستعمار) استغلتهما الأمم الأخري، فشيّدت حضارتها على ما بقي من البناء الحضاري الإسلامي الذي توقف عند بوابة عصر الانحطاط؟ أخلص من ذلك إلى القول بأن ما مضى من تاريخ الصراعات والحروب على اختلافات الفروع لا يستحق أن يلتفت إليه. وأعني بعدم الالتفات عدَم? شحن العواطف وحمل وإثقال الأفكار باجترار ما وقع من ضغائن وعداوات وحروب، المطلوب هو الاتعاظ من آثارها المدمِّرة والحيلولة دون عودة الأسباب التي تثيرها. والتاريخ نفسه - من زاوية أخرى - يعلّمنا أن الذين اتعظوا كانوا هم الفائزين. في أوربا - كما هو معروف - دارت حروب طاحنة طويلة بين الطوائف الكاثوليكية والبروتستانتينية، وتعلموا من ذلك أنه لا يمكن تحقيق السلام إلا بتحكيم ما وهبة الله للإنسان فلم يفعّله، وهو العقل المستنير والمنهج العقلاني الذي لا يقبل الاستبداد بالرأي والانسياق وراء التعصب الأعمى وتغليب عاطفة الانتماء إلى وجهة طائفية على المصلحة العامة. وبذلك كسبت أوربا السلام الذي خرّبته فيما بعد صراعات طائفية من نوع آخر : الشوفينية القومية، ولكن مآسي الحروب أرجعت الأوروبيين إلى عقولهم وتغليب المصالح المشتركة على جروح التاريخ المؤلمة. وما لنا نذهب بعيداً وتاريخ الإسلام يُرينا في نبيّ الإسلام القدوة العظمى ؟ ذلك أنه عندما فتح مكة نادي في أهلها - الذين حاربوه - وقال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء.
إن أصحاب العلم والثقافة والسلطان عند السنة والشيعة يمكنهم أيضاً أن يتعظوا من أحداث التاريخ، وأن يعملوا على أن يتحدوا في أصول العقيدة ويرسّخوا الانتماء لدين واحد وثقافة إسلامية واحدة، مسترشدين بمدلول هذه الآية الكريمة:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}. ينبغي أن لا يحول الاختلاف المذهبي على الفروع دون تقبّل كل طرف للأخر ؛ مما يتطلب بداهة أن لا يترجم الاختلاف المذهبي إلى تصنيف طائفي وتحريض شخصي على الكراهية والعداوة والتكفير والقتل وسب المقدسات. ومثل هذا المعنى تضمنته كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - التي وجهها في 30 شعبان بمناسبة حلول شهر رمضان المعظم في العبارة التالية: (نؤكد رفضنا التام للتصنيف المذهبي والطائفي إدراكاً منا بمخاطره على اللحمة الوطنية في بلادنا). عقب حوادث الاعتداء الإرهابي في مساجد الدالوة والقديح وحيّ العنود بالدمام وجامع الصوابر في الكويت برزت سريعاً صور رائعة من التلاحم الشعبي والرسمي تعبر أيضاً عن الرفض التام لتعريض اللحمة الوطنية للخطر تحت غطاء طائفي أو مذهبي مزيّف، وبلغت قمّتها واتخذت رمزاً لها أن أدّى الشيعة والسّنّة في بعض المساجد في الكويت والمنطقة الشرقيه صلاة الجماعة خلف إمام واحد. هذا النهج من التلاحم يمكن أن يدوم ويقوَي ويصمد أمام مثيري الفتن ويخلو من أيّ ثغرة قد يستغلها المتطرفون لتبرير إرهابهم وجرائمهم، وذلك إذا اتفق أصحاب الانتماءات المذهبيه على التخلّي عن ظواهر التعصب البدائيّ وعن التصنيفات والتسميات المثيرة للكراهية والعداوة أو المهينة للمشاعر، وتفاهموا على الأسس المنهجية لتحقيق المصلحة الوطنية والسلم الاجتماعيّ.