د.خالد بن صالح المنيف
في وقت مضى كنت أقضي وقتا ماتعا في أحد المقاهي مع أحد الأصدقاء وهو شاب طموح عصامي، طيب النفس فكه الخلق ظريف الطبع، وهو ممن استئنس بمجلسه فهو رجل سخي اليد كريم النفس، وهو في المقابل صاحب شطحات وله أفكار عجيبة، وكثير ما يخصني بشيء من نصائحه وتوجيهاته (العجيبة)، وقد لاحظت أثناء جلوسنا اعتناء كل عمالة المقهى بنا،حيث الابتسامة العذبة والخدمة الراقية والاحاطة الكاملة، والسؤال الدائم عما إذا كنا نحتاج شيئا! وتنازعتني الشكوك وتجاذبتني الظنون في أمر تلك الرعاية المميزة، والتي لم أحظ بربعها في أيام مضت! وبعد ما أبديت له استغرابي من هذا الوضع! قال لي في معرض النصيحة: احرص على أن ترخي جيبك وتجزل في عطاياك، واعتن بأن تكون رجل (العشرين ريالا) ولم أستوعب هذه النصيحة فطلبت منه مزيدا من الشرح والإيضاح!
فقال: إن روعة الحياة بأن تكون شخص معطاء، وأن لاتكن أعطياتك محدودة ضئيلة!وذكرني بقصة ذلك الشخص الذي جاء لأحد الوجهاء وقال له: أطلب منك حويجة! فرد عليه الوجيه فلتطلب لها رُجيل! أما أنا فاطلب مني حاجة! حيث كان يرى هذا الوجيه أن مكانته لعظائم الأمور وليس لصغيرها! واسترسل صاحبي في شرح نصيحته لي بأن أكون رجل (العشرين ريالا) قائلا: إن الكثير تعود أن يعطى إكرامية -إن أعطى- لنادل المطعم أو لشخص خدمه في حدود عشرة ريالات و قال عن نفسه: أما أنا فأعطي عشرين ريالا!
وقلت له مستفزا: أنت شخص تهوى الاستعراض ويهمك الـshow وعروقك تنضح بعشق (الهياط)! فلم تحرك فيه تلك الأوصاف المستفزة شعرة، وأكمل بهدوء شرح فلسفته والمكاسب العظيمة عندما أكون رجل (العشرين ريالا)!
فبدأ في بلورة فكرته بعزف على الجانب العاطفي، فقال وقد ألقيت إليه السمع وأبديت جدية أكثر في متابعة حديثه: إن من يخدمنا في تلك المهن هم أشخاص محتاجون ومن أصحاب الأسر و أغلبهم في غربة يتكبدون معها آلام البعد عن أوطانهم و أولادهم ؛ لذا ففي هذا العطاء أجر وثواب، وأكمل حديثه بعد ما رشف شيئا من قهوته وحتى يقنعني بالفكرة قال خالد: قرأت لك يوما مقولة: إن أجمل العطاء في هذه الدنيا، هو عطاء دون طلب والعطاء بأكثر مما يتوقع وقد طبقت نصيحتك! وواصل حديثه بنبرة صوت دافئة قائلا: الأمر لا يتعلق بما ستفعله تلك ( العشرة ريالات) الإضافية لهذا الشخص؛ فالشخص واسع العطاء ضافي المعروف ينال من المكاسب ما لو دفع الآلاف لنيلها لما تردد! سألته وما تلك المكاسب؟
قلت بماذا تشعر بعد (العشرين) فرد قائلا: أشعر بأني ذو قلب رحيم ويد معطاءة وخلق كريم وبحسب تعبيره قال أحس أني (شيخ) وبأقل التكاليف! ولا تسل عن حجم الابتسامة التي ترتسم على وجهي والإيداع الضخم في حساب الثقة بنفسي بعد هذه الأعطية! إضافة إلى ما تراه من تلك العناية ذات خمس نجوم التي أجدها في هذا المقهى وفي أي مطعم أو مكان اذهب إليه فأنا أخدم وكأني قد أجزلت لهم عظيم الهبات وسني الأعطيات! وقد وسعهم هذا العطاء وغمرهم ذا البذل القليل! أترى كل هذا المكاسب لا تستحق عشرة ريالات الإضافية!
وأقول: ما أروع العطاء جميل الاسم عذب الرسم إن صاحبته نية طيبة ومقصدا حسنا وأبشر بعدها بإضافة كبيرة وسعادة عميقة واشباعا أكثر ؛ فناضب اليد قليل العطاء صاحب العقل المادي لا يدرك فكره أسرار العطاء ولايعي معادلة البذل! فلتجعل من عادتك أن تقدم (المزيد)، مزيدا من الود مزيدا من الثناء مزيدا من الاحتفاء! قدم لمن يخدمك وللعامل الذي يتقن مهمته وللنادل الذي يبتسم لك وللسائق الذي يتفاني في خدمتك، والعطاء الجميل لايكن بقصد ترقب مبادلته بمثله، أو بمدح مقابله، فمكاسب المعطي الروحية أعظم بكثير من رد العطاء بمثله، والعطاء كما قرر علماء النفس: يقلل من المخاوف؛ فهو يعزز الروابط الاجتماعية ويمد صاحبه بفيض من القوة والثقة والأمان وما أروع رؤية الفيلسوف والعالم عندما كتب: الحياة الثرية تعني في جوهرها العطاء ومحاولة ترك البشر في شعور أفضل مما وجدتم عليه فاحرص عليه واجعله نظام حياة!
ومضة قلم
لاتنس وأنت تعطي أن تدير ظهرك عمن تعطيه حتى لا ترى حياءه عاريا أمام عينيك!
- جبران خليل جبران