د.خالد بن صالح المنيف
(جاك ما) مؤسس شركة (علي بابا) وأغنى رجل صيني, هذا الملياردير أثار (مبدأً) قديماً يتجدد! فالبعض لا يزال غير مقتنع بهذا المبدأ بل ويراه حكايات قاص وتوهمات صاحب خيال ونظريات عاجز وتجارب محدودة لا ترتقي لتكون قاعدة!.. وهناك من يرى هذا المبدأ مبدأً ثابتاً لا يتخلف في أي زمان ومكان!
وهذا (المبدأ) القديم الجديد الذي أثاره الملياردير الذي يملك أكثرمن (21 مليار دولار) هو مبدأ: المال لا يصنع السعادة!
ففي مقابلة شيقة مع هذا العملاق المالي وهو بالمناسبة رجل قصير القامة نحيف جداً ذكر جملة من تجاربه في الحياة وماذا تعلم في أكثر من خمسين عاماً من الدروس!
فماذا قال (جاك ما) عن حاله بعد أن امتلأت خزائنه بالمال وتعاظمت أرقامها وأصبح قادراً على فعل ما يريد متى ما أراد وبأي طريقة أراد؟
قال - ولا أظنه أمثاله يجيد لعبة المزايدة -: لقد كنت في حال أسعد عندما كان دخلي اليومي 15 دولاراً!
وقال في حديث ماتع عن فلسفته في الحياة: إن الانسان يكفيه (10 ملايين دولار) وما زاد فهو عبء وهم وحِمل!
ماذا ستفعل لو أتاك اتصال من جهة ما، وقال لك المتحدث: لقد فزت بالجائزة الكبرى وقدرها مليون دولار؟
كيف ستكون حياتك بعدها؟ وماذا عن مشاعرك بأي اتجاه ستسير؟
وأجزم أن جملة ممن يقرأ مقالي هذا سينكر عليَّ هذه الأسئلة!
ولسان حاله هل تحتاج معرفة مشاعر فائز بمليون الى استقصاء أو سؤال!؟
إليك هذه الحقيقة العجيبة!.. في وقت قريب حقق الكثير من الفائزين بملايين الدولارات في اليانصيب في أمريكا نتائج سلبية رهيبة حيث تدمرت حياة أغلبهم وتمزقت أسرهم، وفَقدوا الكثير من الأصدقاء، وانهارت العديد من قصص حبهم بل وخلفت تلك الملايين لأصحابها أمراضاً نفسية وعبثت بجملة من المواقف الذهنية وشوهت لهم حتى صورهم الذاتية!
ويُؤكد هذا د.كاميرون أندرسون وهو باحث ومتخصص بقوله: إن أحد الأسباب التي لا تجعل المال يشتري السعادة هو أن الناس سرعان ما يتكيفون مع مستوى الدخل الجديد أو الثراء.. والفائزون في مسابقات الحظ مثل اليانصيب يكونون سعداء في البداية لكنهم سرعان ما يعودون إلى مستوى سعادتهم الأصلي.!
وتم تأكيد تلك الدراسات عبر برنامج بتته ABC News كشف فيه مقدم البرنامج: أن فرص تحقيق الشخص الذي يفوز بيانصيب قيمته ملايين الدولارات للسعادة أقل بكثير من فرص شخص تعرض لحادث وأصيب بكسور خطيرة!
ودونك السبب: إن الفائز باليانصيب يظن أنه حاز الدنيا وملك السعادة وإن أضحى شخصاً بلا مشاكل ولا هموم، وتلك ولا شك اعتقادات خاطئة! إضافة إلى أن أغلبهم يبدد المال باندفاع، فكان كل ما فقدَ شيئاً من ماله أصابته الحسرات ومرارات الندم! وعلى الجانب الآخر فذاك الشخص المصاب في كل يوم يتعافى فيه ويحرك فيه عضواً يتعاظم الأمل بداخله ويتزايد شعوره بالامتنان والتقدير للخالق وللحياة، وهو من أعظم مسببات السعادة والراحة النفسية!
وعندما يهب الله المال لإنسان يسعد ويأنس وتحلّق به أجنحة الفرح ولكن بعد ذلك يتلاشى ذلك الفرح وتخبو تلك السعادة وما كان يظن أن في تملكه قمة السعادة أضحى اليوم أمراً عادياً!.. وأعرف في هذا الشأن من كان منتهى غاياته أن يملك سيارة من نوع معين، ولا تسل عن فرحته عندما ملكها ولكن هذا الفرح وباعترافه تلاشى بعد فترة قصيرة!.. لأن كيمياء المخ كما يقول مصطفى محمود: تنتبه للتحولات وتلاحظ التغيرات بكفاءة عالية ومع مرور الزمن يتطبع هذا الشيء ويبدو أمراً عادياً!
وقد حكى لنا التاريخ حكايات العديد من الأغنياء والمشاهير والنجوم الذين كانوا يبدون وكأنهم أسعد البشر والحقيقية أن الشقاء كان قد ضرب أطنابه في أرواحهم فذاك الفيس برسلي معشوق النساء لم يطل عمره فقد توفي شاباً بعد رحلة معاناة مع المخدرات! كما عاش هوارد هيوز الذي ورث أموالاً طائلة من شركة متخصصة في الصناعات البترولية حياة عزلة لا ثمة إشارة فيها إلى أنه عاش سعيداً!
وهنالك فرق واسع بين السعادة والراحة، فليس كل مرتاحٍ سعيداً ولا كل سعيدٍ مرتاحٌ، وليس كل غني سعيداً ولا كل فقير تعيس! وقد ذكر الأديب الفقيه الطنطاوي - رحمه الله - قصة الملك المريض الذي كان يُؤْتى بأطايب الطعام، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئًا، لما نَظَر مِن شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه، ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنَّى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيًّا.
المال لا شك يجلب السرير الوثير لكنه لا يضمن لك النوم الهانئ، ويشتري لك الطعام الشهي، ولكن لا يضمن لك الهضم المريح, وتملك معه القصر المنيف لكنه لا يضمن لك الاستقرار الأسري، وربما جاء بالشهرة والنجومية لكن جزماً لا يضمن لك حب الناس! مشكلة الأغنياء الأبرز هي الانشغال التام بتنمية المال وحمايته فهم مع هذا الهمّ في هموم كبيرة!
وقد جاء في دراسة أجريت بجامعة سان فرانسيسكو الأميركية، أن الثروة المادية الباهظة تميل للحد من قدرة الناس على تذوق مباهج الحياة البسيطة، وأن الثروة والرفاهية الزائدة قد تقلل من تقدير الشخص للأشياء الإيجابية حوله.
وأشارت الدراسة إلى أن معاناة الشخص المادية تجعله أكثر سعادة وتذوقاً للحظات السعيدة من الشخص المعتاد عليها، مما يعني أن العلاقة بين السعادة والمال علاقة عكسية!
ومن أروع وأهم قوانين الحياة قانون أسميته (يكفيك) مضمونه: أن الإنسان ليس بحاجة لرصيد أعلى ولا بيت أوسع ولا سيارة أفخم لكي يسعد! فما بحوزته الآن يكفيه ليسعد! فليس المال كرقم هو من يجلب السعادة!.. ولكن من يجلب السعادة هو (أفكار) الشخص صاحب المال!.. فالسعادة حالة شعورية وهي ثمرة لمسار عقلي وأسلوب فكري معين!
يقول المفكر الهندي جوبالاكريشنان: إن الرغبة في المزيد تضعنا على طريق لا نهاية له وشبهه هذا بالوضع بقطار الملاهي الذي يختفي المسؤول عن تشغيله فيبقى يعمل دون توقف!.. فهو عند البداية ممتع ومصدر للبهجة ولكن كون من فيه لا يستطيعون النزول فهذا يعني زوال البهجة!
ونحن لا نروّج للفقر ولا للخمول ولا نريد من هذا الحديث توفير بنية فكرية ومنطقاً (تبريرياً) لممارسة حيلة شعورية لتنسويغ القلة والدعة والكسل وقصر اليد وضيق الحاجة فالمال مهم جداً. فهو، وإن لم يحقق السعادة، فسيحقق الكرامة وتلبية الحاجات، ويقي من الحرج والشماتة، عدا عن أنه يمنح! إحساساً بالقوة والندية عن المواجهة».
لا أصادر حق بشر في أن يكون غنياً يلبس الجميل ويمتلك السيارة الفارهة ويسافر إلى أجمل المناطق ويمتلك رصيداً ممتازاً في حسابه! ولكن لا يظن أن الأغنياء بمعزل عن الهم والسهر والمشاكل الأسرية والخلافات!
ما أروع المال إن سُخِّر للخير والعطاء والبذل وجبر العثرات والاستمتاع بما أحل الله فهو أعظم صانعات السعادة.. أسأل الله أن يهب لنا جميعاً سكينة وطمأنينة، ويغنينا عن خلقه ويرزقنا الرزق الطيب الحلال المبارك.
ومضة قلم
ما فائدة الدنيا الواسعة إذا كان حذاؤك ضيقاً؟!