د.علي القرني
اللقاء الذي أجرته قناة العربية مع الكاتبة كوثر الأربش يُعد من أهم اللقاءات ذات الطابع الإنساني الذي أجرته القناة في أحداث ذات تبعات وتداعيات لها علاقة بالإرهاب. وكانت كلمات كوثر في إجاباتها عن أسئلة مذيعة قناة العربية سارة ذات دلالات عميقة،
ومغزى وطني مهم؛ يجب الالتفات إليه. كوثر في هذا اللقاء كانت أُمًّا، وكانت مواطنة؛ فهي فقدت ابنها محمد في تفجير مسجد العنود، لكنها كانت في الغالب تتكلم بوصفها مواطنة؛ وهذا ما أعطى للقاء قوة وتأثيراً باعتبارها فاقدة لابنها، وباعتبارها تواجه قضية كبرى ذات صبغة طائفية، أدت إلى أحداث مؤسفة جداً كتفجيرات المساجد..
كوثر الأربش الكاتبة بصحيفة الجزيرة والقاصة والأديبة ورمز من رموز الثقافة، ليس في المنطقة الشرقية فحسب بل في المملكة، هي التي تدير خطاباً نوعياً في العلاقات المواطنية بين أبناء الوطن الواحد، وحققت منه نجاحاً صعباً، جاء على حساب انتقادات عادة يواجها رواد التغيير في أي مجتمع. كوثر حاولت أن تخلخل موروث تقادم في العقول، ولم يعد يصلح لعصر نعيشه اليوم. خطابها ليس لطائفة بعينها، بل لكل الطوائف؛ فهي تدعو لنبذ الطائفية أينما كانت؛ لأن الطائفية تنخر في جسد المجتمع، وتزرع فيه بذور الفتنة. كوثر تحاول - ليس منذ استشهاد ابنها ولكن من زمن - أن تبني خطاباً تصالحياً بين الطوائف، وتحاول تنقية الموروث من مكونات عدائية نحو الطوائف الأخرى.
لم يكن البيان الذي أصدرته كوثر بعد استشهاد ابنها هو الذي لفت الانتباه رغم ما به من معانٍ وقيم وبطولات، ولكن الذي لفت الانتباه هو كوثر نفسها بكل ما تحمله من قيم مواطنة، وقيم تعايش، وقيم فكرية، وقيم إنسانية.. فقد تشكلت داخلنا كمنظومة متكاملة من الفكر الواعي والنموذج الوطني الفذ؛ فقد زرعت الحب، وأشعلت الشموع، وروضت تمرد الموروث الطائفي. شخصيتها الهادئة في مقابلة العربية تعكس عمق إيمانها بقضاء الله وقدره، وتعكس حبها لوطنها ولأبناء وبنات وطنها أياً كانوا، ومن أي طوائف أتوا، وبأي ألوان تلونوا.. كوثر بنت الوطن أثبتت فعلاً أنها تمثلنا كوطن، وتمثلنا كقيم.. ندعو لها في حب وتآلف وتآخٍ بيننا جميعاً، دون أن نلتفت أبداً لكل من يحاول أن يفتت وحدتنا، ويشتت فكرنا، سواء كان من الداخل أو الخارج.
تفجيرات المساجد هي آخر الجنون الذي أنبتته تلوثات العقول، ونمته ضغائن الطائفية، وهي آخر ما كنا نتوقعه أن يحدث في بلادنا، وهذا ثمرة الفكر الداعشي الذي يحاول أن يقوض وحدة هذه البلاد عبر أجندات خارجية، وذهب ضحيتها أناس أبرياء، ذنبهم الوحيد أنهم كانوا يعبدون الله في بيوت الله. كوثر كانت وما زالت تحاول أن تثني هؤلاء عن مهمتهم الدموية بمقالاتها وتغريداتها وخطابها ومقابلاتها، وبأحزانها ومصابها وآلامها. كوثر كانت متماسكة أمامنا وهي تشجب عداءات الطائفية، وتنمي وعي المواطنة، لكننا نعلم أنها تتألم من داخلها، وتتوجع في أعماقها مما أصابها كأُمّ فقدت ابنها، أو وهي تستذكر أنها حاولت أن تقفل عينَيْ ابنها وهي تراه في مشرحة الموت.
كوثر فقدت ابنها، وعزت والدة قاتل ابنها، وعزت جميع الشهداء، وعزت الوطن في جميع شهدائه.. ونحن نعزيها في فقدها وفي مصابها. ونحن إذ نعزيها نقف إلى جانبها في دعم خطابها الذي يعد خطابنا الوطني الذي نسعى إلى تعزيزه لنبذ الفتنة والطائفية والعداء والحقد بين أبناء الوطن الواحد. كوثر هي خطاب بذاته ومكوناتها وشخصيتها؛ فأولى بنا أن نعمل معها، ونواصل دعم مرتكزات هذا الخطاب الوطني.