د.عبدالرحيم محمود جاموس
تحلُّ ذكرى العدوان الغاشم الذي قام به العدو الصهيوني على ما تبقى من أرض فلسطين، وعلى الدول العربية المجاورة لفلسطين، إنه الخامس من حزيران للعام ألف وتسعمائة وسبع وستين، إنها ذكرى تحمل في ثناياها المرارة، التي تزداد مرارتها عام بعد عام، لم أستطع أن أنسى ذلك اليوم الكئيب وما حمل لشعبنا وأمتنا من نتائج كارثية، لا زلت أكتوي شخصياً بها، كما يكتوي بها كل الشعب الفلسطيني ومعه الأمة العربية، ولا زال العالم ومنظماته وعلى رأسها الأمم المتحدة، عاجزين عن إزالة تلك المرارات التي خلفها هذا العدوان الغاشم، وأكثر من ذلك ما ارتكبه بعدها من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، فقد هجر من هجر، وقتل من قتل، واعتقل من اعتقل، وصادر ما صادر، من الفلسطينيين منذ ذاك اليوم المشؤوم والى الآن، ولا يجد هذا الكيان الفاشي العقوبة الرادعة، فيستمر في غيه، ولا زال يتغول في غيه ويرتكب جرائمه اليومية، التي هي في عرف القانون الدولي الحديث والقديم لا يمكن توصيفها سوى أنها جرائم حرب، فكل ما أقدم عليه من تهجير أو تقتيل أو اعتقال أو مصادرة في حق الفلسطينيين وممتلكاتهم، وإستيطان لأرضهم، كان ولا زال وسيبقى مخالفاً لأبسط قواعد القانون الدولي ولمبادئ حقوق الإنسان.
اليوم يكون اكتمل عمر هذا العدوان ثمانية وأربعين عاماً من المعاناة المستمرة والمتعددة الأشكال التي أذاقها للشعب الفلسطيني طيلة سنواته، وخلف هذا العدوان هزات ارتدادية طالت دول المنطقة، ولا زالت تعاني من آثارها المدمرة، وهي السبب الرئيسي لما تشهده بعض الدول من تمزق واقتتال.
عند وقوع العدوان كنت قد أنهيت الصف السابع أو ما يسمى الأول الإعدادي أو المتوسط بنجاح كالعادة، وكانت قد بدأت حينها العطلة الصيفية لتوها، ومع قرع طبول الحرب في تلك الفترة، كنت أعتقد أن العدو لن يقدر على الدول العربية إذا ما وقعت الحرب، وكان عندي ثقة كبيرة وأمل كبير بأن النصر سيكون حليفاً للعرب، وسوف تتحرر فلسطين المحتلة عام 1948م إذا ما وقعت هذه الحرب، وسننعم بالعودة إلى السهل الساحلي (السهل الغربي) وبشواطئ المتوسط التي حرم منها جيلي، وسنلتقي أقاربنا الذين فصلوا عنا في شفا عمر والناصرة وفي حيفا ويافا، كما سيجري الوصل بين الأهل في الضفة الغربية مع الأهل في قطاع غزة، كل هذه الأحلام للصبي أنا، كانت هي أحلام كل فلسطيني، بل وكل عربي، حلم بتحرير فلسطين وعودة شعبها المهجر من اللاجئين الهائمين على وجوههم، ويحلمون بالعودة إلى الديار التي حملوا معهم مفاتيحها، في ليلة الخامس من حزيران المشؤوم، نمت مبكراً لأني كنت على موعد مع الوالدة «رحمها الله» لمرافقتها إلى كرم جميل لنا إسمه ((الغرس))، يقع في شرق البلدة، مزروع بأشجار اللوز، والزيتون، والعنب، والتين، والبرقوق، والمشمش، والتفاح السكري، الذي كنت أعشقه، وكانت تباشير نضجه قد بدأت، ففي الصباح الباكر، أفطرت كوباً من الشاي، وكسرة من الخبز المحمص، مع قطعة من الجبن النابلسي المالح، وأنطلقت إلى جانب الوالدة، أسابق الريح للوصول إلى الغرس، حيث وصلنا بعد مسير نصف ساعة من إنطلاقنا، وباشرت الوالدة بقطف أوراق العنب، لأنها قررت أن تحضر لنا ذلك اليوم غداء من ورق العنب المحشو بالرز وبالقليل من اللحم المفروم.
وأما أنا، فعهدت إلي الوالدة بإنتقاء بعض من الثمار التي قد نضجت، خصوصاً من التفاح السكري الفريد في نظري لغاية الآن، ولم تمر برهة من الزمن، وإذا بصوت مزلزل، يكسر صمت المكان والزمان، ويتردد صداه بين التلال والجبال، أدخل الهلع إلى نفسي، فتوجهت جرياً نحو الوالدة والتصقت بها، ونظرت إلى السماء وإذا بأربع طائرات تحلق في سماء المنطقة، كان الظن أنها طائرات عربية أردنية أو عراقية، لأنها كانت قادمة من الشرق، وكان تعليق الوالدة أن الحرب قد وقعت، وقالت ((يما خلينا انروح إنشوف إخوتك ونشوف إيش راح نعمل))، وقطعت مهمتها وزيارتها الأخيرة للغرس ومهمتي التي لم يكتمل سروري بها..!، وصلنا إلى البيت واجتمع الجيران، وبدأ الكبار يتحدثون، فهمت أن هذه الطائرات لم تكن عربية، وإنما كانت طائرات معتدية صهيونية من طراز ميراج فرنسية الصنع، كانت في مهمة قصف للمطارات الأردنية وكانت عائدة في طريقها إلى قواعدها وآثرت القيام بعملية إختراق للصوت لتدخل الهلع والرعب في نفوس المدنيين الآمنين من سكان المنطقة، هكذا عشت الساعات الأولى من صباح يوم الإثنين الخامس من حزيران للعام ألف وتسعمائة وسبع وستين، سأبقى أكرر الحديث عن ذلك اليوم المشؤوم، لأنه نكسة ما بعدها نكسة، إنها مرارة بعينها، والألم بعينه يتكرر كل عام، لن يمحوه من نفسي سوى زوال الاحتلال، والعودة للوطن الذي سلبنا، هذه هي ذكرى النكسة الحزيرانية، كما أراها كل عام.
ومع ذلك سأبقى أنا الحاضر... أنا الشاهد... أنا الحالم... بالعودة إلى وطني فلسطين.