د.عبدالله مناع
بعد ثلاث ساعات ونصف الساعة (معقولة).. من الطيران - على إحدى الطائرات المصرية - بين القاهرة وجنيف.. شغلتها بـ(الاستزادة) من عصير فاكهة (الجوافة) المصرية الفريدة، و(القراءة) في أرتال الصحف التي صعدت بها إلى الطائرة والتي وجدتها على ظهرها، و(الاستماع) إلى روائع أساطين
الفن وأربابه.. التي تبثها قنوات الطائرة الإذاعية: من (أم كلثوم) وعبدالوهاب.. إلى عبدالحليم وفريد.. إلى كواكبه: من ليلى مراد وشادية.. إلى وردة وفايزة.. كنت أخرج من مطار جنيف: أسهل وأسلس وأكثر مطارات أوروبا راحة ورشاقة وكفاءة، والذي لا تستغرق إجراءات سفرك فيه - إن كنت قادماً أو مغادراً - أكثر من عشر إلى خمس عشرة دقيقة.. ليلقاني وجهها الناعم الغائم الصبوح الذي أعرفه، وليلفحني هواءها الأشد برودة (5 فوق الصفر) من برد القاهرة المتواضع الذي غادرته (14 فوق الصفر).. فأركض خلف (عدنان) السائق المغربي الأصل والفرنسي الجنسية، الذي بعث به أحد أصدقائي الأعزاء.. ليكون في استقبالي، وإيصالي بمركبته التي وضعها في الدور الخامس - تحت الأرض - من مواقف مطار جنيف.. إلى مدينة (ديفون) الفرنسية.. الصغيرة حجماً والقليلة سكاناً، والأكثر هدوءاً بين المدن الفرنسية الصغيرة.. في فصلي الشتاء والربيع، والتي لا تبعد عن مطار جنيف بأكثر من اثنتي عشرة دقيقة.. حيث (عُشتي) الصغيرة المتواضعة في مجمَّع حديقة (ديفونا بارك) السكني، ليتركني بين حقيبتيَّ: اليدوية الصغيرة والكبيرة.. ويترك في قلبي امتناناً له.. وتقديراً لمعرفته (التقنية)، التي أنجدتني.. عندما استطاع أن يفتح بوابة (الكراج) يدوياً، بعد أن فشل (الريموت) الذي أحمله في فتحها.. حيث عربتي (الداتسون) الأكثر تواضعاً وقدماً.. بعد عشر سنوات من اقتنائها مستعملة، والتي لولاها مع ذلك.. لا أستطيع أن أذهب يميناً إلى (جنيف) أو شمالاً إلى (لوزان) أو أماماً إلى مدينتي (كوبيه) و(نيون) المطلتين على بحيرة (ليمان) الكبيرة الخلابة، والتي تطل عليها معظم المدن السويسرية المعروفة، وأشهر المدن الفرنسية الساحرة: (إيفيان)..؟!
* * *
بعد ثلاثة أيام من الغيظ و(الربكة) لإعادة خدمات المياه الباردة والهاتف والبث التلفزيوني إلى (عشتي) في ديفون، والتي أصابتني بغير قليل من الملل والسأم.. كنت أجلس بعد صحوي من أول قيلولة أنعم بها في (ديفون) وسماؤها تهطل أمطاراً وكأننا في عز الشتاء.. لألقي أول نظرة على كتاب (جوانتنامو) الذي أتيت به من (القاهرة) للكاتب والأديب الأستاذ يوسف زيدان، والذي لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة إن كان (دراسة) أو بحثاً أو مجموعة من المقالات في نقد ذلك المعتقل الأمريكي الرهيب، وتعريته.. فلم ألحظ كلمة (رواية) التي كتبت على غلافه، والتي تحتاج إلى (كولومبس) لاكتشافها من شدة صغرها وضآلة حجمها في قلب غلاف الكتاب، الذي يقطر تصميمه شقاءً وبؤساً.. وهو يصور زنزانة سوداء، تقبع في داخلها (جمجمة) محاصرة من جوانبها الأربعة.. لها عنق وبدن إنساني نحيل، تحمله طرفان أشد نحولاً.. تمتدان إلى خارج الزنزانة باللونين: (البرتقالي) الحاد.. الذي عُرف بها نزلاء ذلك الجحيم الأمريكي على الأراضي الكوبية، و(الأزرق) الباهت.. الذي يشير لـ (أمل) هؤلاء غير المؤكد - أو المستحيل - في (الحرية)، وقد كتب على الغلاف بـ (خط) كخطوط أبناء المغرب العربي.. كلمة: (جوَّنتنامو).. فيما يشبه الإشارة إلى أن من بين نزلاء هذا الجحيم عدد من أبناء المغرب العربي.. كـ (خيري) التونسي.. الذي عُرف بين النزلاء بـ(محب الحور)!!
على مهل وروية.. كنت أرتشف صفحات الكتاب.. الذي بدا لي بعد العشر الأولى من صفحاته، التي تبلغ قرابة الثلاثمائة صفحة.. كما لو أنه تحقيق صحفي مطول (التحقيق أب «الرواية» كما يقول غبريال مركيز) عن مجموعة من تعساء المسلمين الأفغانيين والعرب الأفغان، الذين ألقى جنود (المارينز) القبض عليهم من سجن مدينة (قندهار) الأفغانية، ثم اصطحبوهم بعد أن سلسلوا أقدامهم مع أياديهم، ووضعوا شريطاً (لاصقاً) على أفواههم قبل أن يحشروا رؤوسهم في أكياس سوداء.. لينطلقوا بهم في رحلة عذاب لم يعرف التاريخ الإنساني لها مثيلاً، عبرت بهم الأجواء حيناً.. والبر أرى حيناً.. والبحار أخيراً.. حتى استقرت بهم رحلة العذاب والهوان في أرض قاحلة يباب من الأراضي الكوبية.. ليروا في مواجهتهم غابة من الأسلاك الشائكة يختبئ بداخلها هذا المعسكر الجهنمي المسمى بـ (جوانتنامو)، والذي اقتيدوا إلى زنازينه التي تشبه أقفاص الحيوانات.. بعد أن حلقوا لهم حواجبهم وشواربهم ولحاهم ورسموا في رأس كل واحد منهم علامة (الصليب)، ثم جردوهم من ملابسهم ليصبحوا عراة كما خلقتهم أمهاتهم وسط ضحكات الحراس والمجندين والمجندات.. ليجري تصويرهم على مهل وسط أحاسيسهم بالخزي والعار والمهانة، ليُقادوا بعد ذلك إلى منطقة رملية أخرى.. أبعد من التي كانوا يقفون عليها، لتنطلق عليهم خراطيم المياه.. وسط تلك الحال البائسة التي كانوا عليها جوعاً وعطشاً وبرداً.. بهدف تنظيفهم أو طهارتهم.. فيسقط نصفهم من الجوع والبرد، في الوحل الذي صنعته خراطيم المياه، ليتم إلباسهم.. ذلك (اليونيفورم) البرتقالي المصمت من واجهته الأمامية حتى يتعثرون عند قضاء حوائجهم.. فيتنجسون وتبطُل صلواتهم في تلك الزنازين الجرداء إلا من سرير حديدي و(دلو) لقضاء الحاجة، ليصيح أحدهم ممن يجيدون الإنجليزية بطلاقة.. قائلاً: ما هذا الجنون..؟ أنتم مخطئون!! أنا أعمل بالإعلام والصحافة.. فينهال عليه الحراس ضرباً بكل ما لديهم حتى أصبح كومة هامدة.. ليقول أحد الحراس ساخراً!! (بِرس)..!!
ليسمى بعد ذلك اليوم بـ (البرس).. وليروي الأستاذ يوسف زيدان.. قصته وقصة الأهوال التي عايشها طوال سنوات سجنه السبع.. وحتى إطلاقه في أوائل عام 2012م وتسليمه لمصر بترتيب خاص أدارته الـ (CIA).. وليس لـ (السودان) أو (باكستان)، اللتين رفض أن يُسلم إلى أي منهما، وفضل أن يبقى حيث هو فـ (لا يريدني أحد، وليس لي صاحبة ولا ولد).. كما قال!؟
لقد كان اسمه عند وصوله إلى (جوانتنامو): الأسير (676).. أما من قبل فقد كان اسمه (أبو بلال).. لسمرته من جانب ولحفظه القرآن من جانب، ولجمال صوته في رفع الأذان من جانب ثالث.. الذي أهله إلى مرتبة إمامة النزلاء عندما سُمح لهم بإقامة صلاة الجماعة، وقد بدأت قصة اعتقاله بطريق الخطأ.. على الحدود الأفغانية الباكستانية - عندما أوفدته إحدى صحف العاصمة القطرية (الدوحة) لتغطية أخبار ما عرف بالجهاد الإسلامي آنذاك - باعتباره إرهابياً إسلامياً حيث تم إيداعه سجن قندهار الرهيب.. ليجده جنود المارينز الأمريكيين أمامهم بعد احتلالهم لأفغانستان.. بهدف الوصول إلى (القاعدة) وزعيمها (أسامة بن لادن) بطل أحداث الحادي عشر من سبتمبر!! فيأسرونه، وتبدأ رحلة عذابه وعذاب زملائه العشرين.. الذين لحقوا بذلك المعتقل حتى بلغ عددهم سبعمائة معتقل أو يزيد.. لتفعل بهم المخابرات الأمريكية الـ (CIA) ما تشاء فعلاً دون حسيب أو رقيب من خلق أو دين!! مما يخطر وما لا يخطر على بال إبليس نفسه، لانتزاع اعترافاتهم.. إلا أن صياحه على جنون السجانين أعطاه اسمه الأخير: (الصحفي) أو الـ (برس) بالإنجليزية.. والذي بقي عليه إلى أن أُطلق سراحه، وعاد إلى (مصر) بلد والدته.. إنفاذاً لقانون (الحريات الأربع) الذي تم التوقيع عليه بين مصر والسودان عام 2004م.
على أن الرواية.. لم تقف عند تفاصيل قصة (البِرس) وما أكثرها وأتعسها.. بل امتدت لتشمل قصص العديد من زملائه.. إلى (محب الحور) و(الشيخ نقطة) و(عبدالله المكي) وأبو (مصعب اليمني) و(أحمد الراشدي) المغربي و(عبدالله الحضرمي).. لتهز كياني حادثة انتحار السجينين، اللذين فضلا الانتحار على تسليمهما لـ(مخابرات) أو استخبارات بلديهما..!!
* * *
لقد كنت محظوظاً دون شك عندما سلمني أحد أصدقائي المصريين الأعزاء.. أواخر العام الماضي نسخة من ملخص تقرير (الكونجرس) الأسود عن فظائع ما حدث ويحدث في (جونتنامو).. لأحصل - في مطلع هذا العام - على هذه (الرواية السوداء) عن فظائع ما فعلته - وما تزال تفعله - المخابرات المركزية الأمريكية، لتكتمل في مخيلتي لوحة (الويلات المتحدة الأمريكية) سياسياً..!! والتي كان خطها - سطرها - الأول بـ(يونيه 67)، وكان خطها الثاني باحتلال بلد الأفغانيين، الذين قاتلوا عنهم معركة إسقاط (الاتحاد السوفييتي)، وكان خطها الثالث.. بـ (احتلال) العراق وتقسيمه والاستيلاء على نفطه وتراثه الثقافي الفريد.. بينما البيت الأبيض الأمريكي ما يزال يتحدث عن الديمقراطية وحريات الشعوب وحقوق الإنسان المضطهدة في العالم.. إلى يومنا هذا!!