إبراهيم عبدالله العمار
زرتُ النمسا ذات مرة، وصحيح أنّ الناس عادة يسافرون ليزوروا المعالم السياحية إلاّ أنّ من أبرز الأشياء التي تشدني: مشاهدة تقاليد وعادات وطباع الشعوب الأخرى. والنمساويون كما هو معروف يتكلمون اللغة الألمانية وهناك أشياء كثيرة مشتركة بينهم وبين جارتهم الكبرى، وعلى رأسها الحضارة.
لا أقصد فقط الحضارة المادية، بل الحضارة الثقافية. دعوني أضرب مثالاً: في المحلات التجارية يشكِّل الزبائن صفاً منظّماً عند المحاسب، وهذا نراه في أسواقنا، لكن ماذا يحدث إذا احتاج المحاسب أن يساعد الزبون وأن يترك مكانه؟ الذي رأيته في هذه البلدان أنه إذا اضطر أن يترك مكانه ليساعد الزبون، فإنّ الاثنين يذهبان ويأخذ العامل في عون الزبون، والذي أعجبني أن بقية الزبائن - الواقفين في الصف - لا ينبسون بِبِنْتِ شَفَة. رأيتهم لا يتذمرون، لا يزفرون بنفاد صبر، لا ينادون المحاسب ليعود، وهي أشياء تعوَّدنا عليها هنا، فلو حصل هذا في بلادنا لربما رأينا بعض الواقفين وهم يتشكّون ويزفرون بملل ويصيحون بالمحاسب من بعيد: «تعال يا شيخ! خلصنا!». بل رأيت الصبر والاحترام لديهم في الكثير من هذه المواقف. هذه هي الحضارة التي أعجبتني فعلاً وليس فقط الحضارة المادية.
مثال آخر: الالتزام التام بالأنظمة. عندما يقف المشاة أمام الإشارة فإنهم مثل التماثيل، ولا يتحرك أحدهم ويقطع الشارع - حتى لو لم يكن هناك سيارات - إلا إذا اخضرت إشارة المشاة سامحة بالمرور. غريب هذا في البداية لكن بعد فترة تحترمه.
رأيت شباباً ومراهقين وأطفالاً في المتاحف. المتحف مؤسسة تعليمية، والشعب الذي يزور المتاحف ويرتشف من علومها وتاريخها شعب واعٍ ناهض. الشعوب التي تنجذب للأسواق ومراكز اللهو وتنفر من المتاحف والمكتبات شعوب لن تنهض ولن تتقدم، بل سترجع للوراء.
في الحافلات والقطارات فترات انتظار طويلة أحياناً، فلا يصل المرء لوجهته إلاّ بعد نصف ساعة مثلاً، وأحياناً بعد 6-7 ساعات إذا كان القطار بين مدينة وأخرى، ففي فترة الانتظار هذه كيف كانوا يقطعونها؟ هل بالمكالمات على الجوال؟ برامج المحادثة؟ ساعات من المقاطع المرئية؟ لا، بالقراءة. يا له من منظر أسعدني وأحزنني في نفس الوقت! كنت أقطع عربات القطار من أولها لآخرها وأمرُّ بين المقاعد ورأيت الرجال والنساء وكل منهم معه كتاب يقرأه، بل والله رأيت الأطفال يقرأون! أطفال بعضهم يبدو في الخامسة من عمره أو أصغر، ومعهم كتب أطفال يقرأونها! أسعدني هذا لأنه منظر حضاري جميل في حد ذاته، وآلمني لأني لا أرى مثله في بلادنا، فلو كنا مكانهم لكان مع كل امرئ هاتف متنقل ليقطع الوقت في اللعب أو المحادثات، ولكان مع الطفل ألعاب فيديو أو ألواح رقمية يلعب بها.
لا نستطيع تغيير طقسنا ولا صحارينا وطبيعة بلادنا لكن نستطيع تغيير عاداتنا وطباعنا للأفضل، نحو العلم والقراءة والصبر واللطف وتعويد الصغار على ذلك. أمنيتي أن أرى مثل هذه المظاهر الحضارية في بلادنا.