د.عبدالله مناع
في محطة توقفي الأولى بـ(القاهرة).. في إجازتي الربيعية التي عدت منها قبل أيام.. كانت (القاهرة) تدهشني بـ(برودتها) المناخية وكأنها في شهري (طوبة) أو (أمشير) -أبرد شهور العام فيها-، وليست في شهر (إبريل).. شهر الربيع والدفء والحب و(شم النسيم)، و(الكذبة) البيضاء التي عُرفت
باسمه: (كذبة إبريل)، والذي تُعكر بعض أيامه أحياناً.. رياح الخماسين المُغْبِرَّة والحارة، لكن دهشتي.. لم تتوقف عند تلك (البرودة) المناخية، التي فاجأتني.. كما فاجأت أهل مصر أنفسهم في السابع والثامن والتاسع عشر من الشهر نفسه، ولكنها كانت تمتد إلى حالة (النظافة) التي رأيت الشارع القاهري عليها.. إن كان في شارع (صلاح سالم) أو شوارع العباسية أو على كورنيش النيل أو في الزمالك وميدان التحرير و(وسط القاهرة).. عندما قدر لي -في تلك الأيام الثلاثة التي أمضيتها بها- أن أمر بميدان (طلعت حرب).. لآخذ فنجاناً من (القهوة)، في مقهى (جروبي) الشهير.. بـ(شهرة) رواده من صفوة المجتمع القاهري وكبرائه في أربعينيات وخمسينيات إلى ستينيات القرن العشرين.. من أعلام الفكر والأدب والسياسة والصحافة والفن: من (باشا السياسة) سراج الدين إلى المسرحي والروائي الفنان (توفيق الحكيم).. ومن إمبراطور النغم وأستاذه (محمد عبدالوهاب) إلى الضاحك الباكي: البرلماني المفوَّه والصحفي اللاذع (فكري أباظة)، ومن أمير صحافة الأربعينيات (محمد التابعي).. إلى نيزك الشعر والشعراء في الخمسينيات والستينيات (كامل الشناوي).. الذين كانوا جميعهم من رواد (جروبي) في تلك الأيام، ومع تغير الأيام والزمان.. لم يبق من ألقه ووهجه القديم.. غير اسمه (جُروبي)!! الذي ربما يكفي عاشقاً مثلي للأماكن القديمة.. للتعلق به، وترديد اسمه.. لأعرج بعدها سيراً على الأقدام إلى (مكتبة مدبولي)، التي أصبحت لا تقل شهرة في عصرها الحاضر عن شهرة (جروبي) الماضي، ليحمِّلني أحد الأبناء الروحيين (للمعلم مدبولي) من غير أبنائه الشرعيين الثلاثة - مؤسس المكتبة وصاحبها وعصامي الصحافة المصرية الأشهر الذي تحول من بائع متجول للصحف.. إلى صاحبٍ لأشهر مكتباتها و(دور نشرها) الأعجوبة!! في قدرتها على التمييز.. بين (الكتاب) الذي يستحق النشر وقبوله من مؤلفه.. وبين ما لا يستحق النشر.. ورده لصاحبه.. في سويعات!! - بأربعة أو خمسة كتب من أحدث ما لديه.. بـ(سبعمائة جنيه)!! وهو ما أذهلني، وجعلني أعيد النظر في تقديراتي السابقة المتواضعة لـ(أثمان) الكتب في القاهرة.. إلا أنني لم أندم على اقتنائها، فقد كان من بينها كتاب للشاعر العراقي الأشهر (معروف الرصافي) عن (الرسول)- صلى الله عليه وسلم- وحياته، وآخر لا يقل أهمية للمستشرق الألماني الكبير (تيودور نولدكه) عن (تاريخ القرآن) نصاً وجمعاً ورواية. فأكثر من ثمانمائة صفحة.
إلى جانب تلك النظافة الملموسة في شوارع وميادين القاهرة إجمالاً.. كان هناك قدر لافت من الهدوء والانسيابية المرورية في تلك الشوارع والميادين، وهو ما يقدم صورة ولو رمزية عن الأداء الجيد لحكومة الدكتور إبراهيم محلب، التي أعيد تشكيلها برئاسته بتكليف.. من قبل الرئيس عبدالفتاح السيسي بعد انتخابه، وهو ما يبشر زوار مصر وسياحها ومحبيها وعشاق حياتها وليلها ونيلها بقرب عودتها.. إلى سابق صورتها الحضارية الثقافية الفنية المشرقة التي كانت عليها قبل (سنة القحط) الإخوانية التي عاشتها مصر.. والتي لم أجد فيمن رأيت من يبكي عليها أو يذكرها بالقليل من الخير.. فضلاً عن الكثير منه!!
* * *
بعد أول أربع وعشرين ساعة من الاستغراق في حياة (القاهرة) وصباحاتها ومساءاتها وليلها وصَحْبها وصحافتها.. كانت دهشتي تأخذني إلى (صيف سياسي) قائظ من الجدل والحوارات الساخنة بين الصحفيين والكتاب والسياسيين ورؤساء الأحزاب وأعضائها حول الانتخابات التشريعية - أو البرلمانية - القادمة.. والتي لما يعرف بعد إن كانت ستجرى في شهري نوفمبر أو ديسمبر القادمين من هذا العام، باعتبارها الاستحقاق الرابع والأخير لـ (خارطة المستقبل) التي أعلنتها قيادة ثورة الثلاثين من يونيه في الثالث من يوليه.. أم أنها ستؤجل إلى الشهور الأولى من العام القادم، بعد أن أبطلت (المحكمة الدستورية).. قرارات لجنة الانتخابات الخاصة بتقسيم الدوائر وأعداد المرشحين للقوائم ولـ(الفردي) بسبب عدم (دستوريتها).. واستجاب الرئيس السيسي لقرار المحكمة، إلا أن التعديلات التي أجرتها لجنة الانتخابات.. لما تعيدها إلى المحكمة ليصدر الرئيس قراره بناء على اعتمادها من قبل المحكمة، مضافاً لذلك.. هذه (الفوبيا) الإسلامية السياسية التي صاحبت رفض محكمة القضاء الإداري -بمجلس الدولة- النظر في الدعاوى المرفوعة ضد (حزب النور) السلفي.. والمطالبة بحله باعتباره حزباً دينياً يخالف الدستور الجديد، ومنعه -بالتبعية- من دخول الانتخابات القادمة عندما يتحدد موعدها.. باعتبار أن الدعاوى المرفوعة بـ(حل) الحزب جاءت من غير الجهة المختصة وهي (لجنة الأحزاب)، التي سبق وأن طلبت من محكمة (القضاء الإداري) حل حزب (العدالة والحرية) الإخواني.. فاستجابت المحكمة لطلبها بحله، وهو ما يعني أن على (لجنة الأحزاب) أن تتقدم بطلب حل حزب النور إلى (محكمة القضاء الإداري).. وهو ما لم تفعله لجنة الأحزاب التي تأتمر (دستورياً) بأمر الرئيس عبدالفتاح السيسي، ليتهمها الصديق والزميل الصحفي -رئيس تحرير صحيفة (المقال)- الأستاذ إبراهيم عيسى بـ(التواطؤ) مع (حزب النور) لمخالفة الدستور.. في رفضه الصريح لقيام أحزاب دينية أو فئوية، وهو ما يعني اتهام الرئيس ضمناً.. بـ(التواطؤ)؟! ليدخل ساحة هذا الجدل.. رئيس حزب النور الأستاذ (يونس مخيون).. مدافعاً عن حزبه، بأنه ليس حزباً دينياً.. وأن جمعيته العمومية تضم أقباطاً -مسيحيين- إلى جانب المسلمين وغيرهم، وأنه حزب سياسي.. وطني وليس حزباً دينياً، بل وأن من بين المرشحين الذين سيدفع بهم إلى ساحة الانتخابات القادمة عندما يتحدد موعدها.. عدد من (الأقباط) جنباإلى جنب مع زملائهم من (المسلمين).. وهو ما يؤكد صفة الحزب السياسية وليست الدينية..!
وسط هذا الجدل.. صب السيد عمرو موسى -رئيس لجنة الخمسين- التي قامت بتعديل وغربلة دستور الإخوان -المطعون عليه- حتى ظهر بصورته التي أجمع عليها المصريون الزيت على النار -كما يقولون- عندما قال في حواره مع أعضاء (منتدى الحوار) في صحيفة (الأخبار).. بأنه لن يرشح نفسه في الانتخابات البرلمانية القادمة.. وهو ما يعني خروجه من دائرة احتمال انتخابه رئيساً لـ(البرلمان المصري) القادم، وأنه (لا يتخوف من حزب النور في المنافسة القادمة)!؟ وهو ما يعني أنه يؤيد محكمة القضاء الإداري في رفضها للدعاوى المطالبة بحل الحزب، وأنه يؤيد بالتبعية الرئيس السيسي وموقفه الذي يمكن اعتباره أخلاقياً من عدم دفع (لجنة الأحزاب) للمطالبة بحل الحزب..!! نظراً لتلك المواقف الشجاعة التي تبناها (حزب النور)، وظهر بها في يوم جيشان ثورة الثلاثين من يونيه.. عندما اختار الاصطفاف إلى جانب الوطنية المصرية في إسقاط (مرسي)، وحكومة الإخوان.. حتى غادرت حكم مصر إلى غير رجعة..!!
لكن (أخلاقيات) الرئيس السيسي في تبني هذا الموقف.. لا تنفي عن (حزب النور) السلفي (انتهازيته)!! فقد كان -هو نفسه- في أول برلمانات ثورة الخامس والعشرين من يناير - الذراع المساندة لحزب (الحرية والعدالة) الإخواني، واليد التي تصفق له، وتبارك كل خطواته.. بل وأعضاؤه هم الذين تولوا صياغة (دستور الإخوان) بعد حل البرلمان المصري عبر أعضاء مجلس (الشورى) المعين نصفهم..!!
على أن (حزب النور) الذي يرتدي -اليوم- ثياب البراءة والوطنية.. هو نفسه صاحب تلك المبادرات الإسلامية المتشددة أو (سيئة السمعة) على وجه الدقة.. التي صاحبت ظهوره (الأول) على ساحة العمل السياسي!! فالمصريون لم ينسوا دعوة أحد أعضائه بضرورة تغطية تماثيل الشخصيات والزعامات المصرية التاريخية في شوارع وميادين (القاهرة) و(الإسكندرية) بـ(الشمع).. كـ(تماثيل) (إبراهيم باشا) وطلعت حرب ومصطفى كامل وأحمد ماهر وكتمثالي عبدالوهاب وأم كلثوم في حديقة دار الأوبرا.. بـ(القاهرة)، وتماثيل (محمد علي باشا) والخديوي إسماعيل والموسيقار سيد درويش في (الإسكندرية).. خشية (الفتنة)..!! بل ولم ينس المصريون.. أخذ جماعة من أعضائه (المبادرة) بـ(إقامة) شرطة أخلاقية.. تتعقب سلوكيات المواطنين والمقيمين والسياح في الشوارع والميادين وعلى الشواطئ وكورنيش النيل، والتي كان أول ضحاياها طالب كلية الهندسة في جامعة السويس.. الذي فقد حياته على يدها.. لأنه كان يجالس (خطيبته) أمام المارة على الكورنيش البحري لمدينة السويس.. بحجة أنه كان في (خلوة)..!!
لقد قالت صحيفة (الأخبار).. في عناوين حوارها مع (عمرو موسى) بأن («العك» السياسي.. ما يزال مستمراً)، وهي على حق.. فقد خرج الجدل حول (حل) حزب النور من عدمه، والذي ستتولى أمره في النهاية (المحكمة الدستورية).. صائنة (الدستور) والمدافعة عنه.. إلى قضايا (الحجاب) و(النقاب)، وإلى ما حدث عام 1921م عندما خلعت السيدة هدى الشعراوي (برقعها).. لتحذو حذوها كل نساء نهضة مصر في ذلك الزمان الرائد.
* * *
نعم، كانت (القاهرة) تعيش هذا العام ربيعاً كـ(الشتاء).. مناخياً، وكـ(الصيف) القائظ.. سياسياً، ولا يزال الجدل الذي أدهشني وفاجأني، ثم غادرته في ذلك الصباح الأحدي البارد.. مستمراً، وفي حقيبتي ذلك الكتاب الذي أهدانيه أحد أعز أصدقائي في القاهرة: المخرج الصحفي الفنان الأستاذ عبادة الزهيري.. كتاب (جوانتانامو)!! للأديب والروائي المعروف الأستاذ يوسف زيدان.. ليكون خير جليس في ليالي النصف الثاني من إجازتي الربيعية - التي لم تزد على أربعة عشر يوماً!!