د.عبدالله مناع
في ليل الثلاثاء ما قبل الماضي.. كنت من بين الملبين لـ (دعوة) نادي جدة الأدبي الثقافي.. لحضور (ملتقى) قراءة النص الثالث عشر في أحد فنادق جدة الشهيرة، وهو (ملتقى) تم ابتكاره.. أيام رئاسة الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين الطويلة للنادي،
وبـ (مشورة) بعض أعضاء مجلس إدارة النادي حتماً.. ممن تسبق عليهم صفة (الناقد) على صفة (الأديب)، فلم يُقدَّر لي أن أحضر أياً من تلك (الملتقيات) الاثني عشر السابقة.. باعتبارها ملتقيات لـ (النقد) و(النقاد) بأبحاثها الطويلة المرهقة.. بما فيها تلك الملتقيات التي كان يحرص فيها الأستاذ أبو مدين على دعوة عدد من أعلام النقاد العرب من مصر والشام والعراق وتونس والمغرب للمشاركة فيها.. ربما لتعظيم شأن «المناسبة» أو شأن (النقد) الأدبي و(النقاد)، الذين يعتبر نفسه - أحدهم - وربما أولهم، بكتابه النقدي المبكر (أمواج وأثباج).. الذي صدر عن سلسلة صحيفة (الأضواء) السابقة قبل خمسين عاماً تقريباً.. وتناول فيه - من بين ما تناول - عدداً من قصائد الشاعر الكبير المرحوم الأستاذ أحمد إبراهيم الغزاوي.. حتى رفع عليه (عصاه) ذات مرة.. مهدداً باستخدامها، مما اعتبره الأستاذ أبو مدين (شهادة) له.. بأنه ناقد يخشاه (المبدعون).!!
على أي حال.. ربما كان امتناعي عن حضور تلك الملتقيات النقدية انتصاراً لـ (الأدباء) والمبدعين بصفة عامة.. في خلافهم أو معركتهم التاريخية الطويلة مع (النقد) و(النقاد)، الذين يحاولون سباقهم على الصف الأول من دوحة الإبداع.. باعتبار أنهم - هم - أساس الحركة الأدبية: أصلها.. ومنبعها، بينما الحقيقة غير ذلك.. بل وعكس ذلك، فالأساس والأصل هو (الأديب) وإنتاجه.. وإبداع المبدع وإنتاجه سواء كان: شعراً أو نثراً.. قصة أو رواية أو مسرحية أو ديوان شعر.. أو حتى ديوان (زجل)، وعلى أدب وإبداع هؤلاء الأدباء والمبدعين.. يعيش (النقد) و(النقاد)، وبالتالي فهم يأتون في المرتبة الثانية - من العملية الأدبية أو الإبداعية - التي يرفضونها، أو كما كنت أقول - في الزمانات بشيء من عدم الاكتراث - بأن (الناقد) هو صاحب قلم حاول أن يكون (أديباً).. فلم يستطع، فتحول إلى (ناقد) يفتي فيما ينتجه الأديب أو المبدع إن كان شاعراً أو ناثراً.. بل ويقوم مكانته بين «العظمة» و»التواضع» في مستواه، وهي منزلة ترضي طموح (النقاد) وإن لم تعطهم شهرة الشاعر أو مكانة الروائي أو القاص..! راجياً أن لا يفهم انتصاري للأدب وللأدباء والمبدعين.. بأنني أعتبر نفسي أحدهم، فلست كذلك.. رغم المحاولات التي سجلها تاريخي إن كان في تلك الخواطر القصصية التي ظهرت في كتاب (لمسات) أو في كتاب (أنين الحيارى) أو في قصتي الطويلة (على قمم الشقاء).. والتي أسماها القراء بـ (الرواية) لطولها - النسبي - لا أكثر، ولو كنت أعتبر نفسي أديباً.. لما كتبت هذا الذي أكتبه الآن، والذي قد يُفسر بأنه دفاع عن (أبناء جلدتي).. عند من يعتبرونني أديباً من الأدباء..، ولكنني خضت وأخوض في هذا الأمر.. باعتباره شأناً ثقافياً - حاضراً.. غائباً - وإن لم يعد ملحاً في ذاته.. إلا أن تداعياته أو (توابعه) وصلت إلى الصحافة المحلية التي أخذت تغدق (الألقاب) المجانية على من يستحق ومن لا يستحق من هؤلاء: فهذا ناقد كبير وهذا الأديب الكبير، وهذا أستاذ النقد و.. و.. وقد شدتني إليه الـ (دعوة) لحفل افتتاح الملتقى، التي حرص الصديق العزيز الأستاذ الدكتور عبد الله السلمي على تأكيدها هاتفياً.. لأسباب لم أتبيّنها إلا بعد افتتاح الملتقى.
* * *
عند التاسعة مساءً.. وعلى بوابة الفندق، وفي بهوه.. بدا المكان غاصاً بالمدعوين من الأدباء والنقاد والصحفيين والإعلاميين ومصوري الصحافة والتلفزيون.. فأبهجني حجم الحضور، لأشق طريقي بعد السلام على رئيس النادي الدكتور السلمي، وزميله عضو مجلس الإدارة الإعلامي الفنان الأستاذ عبده قزان.. إلى قاعة الاحتفال التي وجدتها أشد اكتظاظاً بحضورها من مدخل الفندق وبهوه، لتأخذني المصادفة إلى مقعد مجاور.. لمقعد الأستاذ الدكتور حسن الهويمل الأديب والناقد التراثي المعروف وزميلي بـ (قلمه) في صفحة الرأي بعزيزتنا (الجزيرة).. لنتهامس بـ (السلامات) والتحايا.. قبل أن يقطع علينا الأستاذ قزان تهامسنا بـ (مقدمة) افتتاحه لـ (الملتقى) بلغته الإذاعية الرشيقة التي يعرفها مستمعو إذاعة جدة، وهو يذكرنا بأن قراءة النص لهذا العام.. ستفرغ على مدى أيامها الثلاثة لـ (الإنتاج الأدبي والنقدي لجيل الرواد بالمملكة: تاريخ ومراجعة وتقويم).. وهو ما أحسب أنه كان أحد أسباب هذا الحضور الكثيف من الجنسين ومن أجيال الشباب بينهما خصوصاً، التي سمعت عن العواد والشحاتة والجاسر والضياء والسرحان وعبد الجبار والسباعي والزيدان وغيرهم.. ولم تعرفهم ولم تقرؤهم، ليتيح لها هذا (الملتقى) فرصة التعرف عليهم عبر متحدثين عنهم.. نافوا عن الثلاثين باحثاً ودارساً وأستاذاً، ليتلوه بعد ذلك الدكتور السلمي.. بكلمة قصيرة مفعمة.. ليُختتم حفل الافتتاح بـ (قصيدتين)، أولاهما للدكتور الغامدي وثانيتها للأستاذ فاروق بنجر، ذكّرتانا.. بأننا ما زلنا أمة شاعرة رغم غياب الفحول والكبار، لينتهي حفل الافتتاح.. فتعقبه - دون استراحة واجبة.. أغفلها منظمو الحفل - ندوة وفاء للكاتب والأديب والناقد الراحل الأستاذ عابد خزندار.. فكانت خير تعويض لي عن تقاعسي في تلبية دعوة (ضحوية الشيخ حمد الجاسر) التي عُقدت - في دارته بالرياض - لـ (تأبين) الأستاذ الخزندار في أعقاب وفاته مباشرة.. قبيل أيام من افتتاح معرض الرياض الدولي للكتاب الماضي، والتي كان نجمها ورَّاق الصحافة الأكبر و(ديدبان) تاريخها الأستاذ محمد القشعمي.. بكلماته الشجية عن الأستاذ عابد خزندار، وصداقته للراحل الأستاذ عبد الكريم الجهيمان والأيام الرمادية الطويلة التي جمعت بينهما، والتي أعادت إلى ذاكرتي - وأنا أتابع الندوة - تلك الصورة الشفافة والذاهلة.. التي رأيت الأستاذ عابد عليها في أول لقاء به في (ثلوثية الطيب).. فبقت في وجداني ورحل صاحبها، الذي تمنيت وجوده في تلك السويعة ليستمع إلى قصيدة الحب له والتقدير لأعماله.. التي جاءت في ختام تلك الندوة عبر صوت الدكتورة - الطيبة الشابة - هناء عبد الله حجازي وكلماتها.. لتكون أجمل ختام.. لهذه (الندوة) الحضارية الإنسانية، الراقية التي أحسن منظمو (الملتقى).. تضمينها حفل افتتاحه، والذي اختتم بتسليم (جائزة جدة للدراسات النقدية) للفائزيْن بها مناصفة، وهما: الأستاذ الدكتور حسن النعمي والأستاذ الدكتور حسين المناصرة من الأردن.. لأجد نفسي مع وقائعها في مفاجأتين لم تكن تخطرا ببالي.
* * *
فعلى منصة الحفل.. وقد خلت من أعضاء ندوة (الخزندار)، وبدأ صعود أمين لجنة الجائزة - الصديق الودود الأستاذ الدكتور عاصم حمدان - إليها وبرفقته الفائزان.. كان الدكتور السلمي يطلب مني الصعود إلى (المنصة)..؟ فترددت.. ليستحثني جمع الجالسين من حولي على الصعود.. فصعدت، دون أن أعرف ما المطلوب من صعودي إلى المنصة.. ليخبرني الدكتور السلمي - وهو يأخذ بيدي إلى أعلى المنصة - بطلب المشاركة في تسليم الفائزين جائزتهما مع الدكتور الحمدان.. فابتسمت لهذه (المفارقة) - التي ربما لا يعلم بها غيري -، وقد هزتني (لفتة) الدكتور السلمي التي كشفت لي مجدداً عن سمو خلقه وأصالة معدنه.. فكان أن شاركت الدكتور الحمدان تسليم الجائزة وشهادتها ودروعها وشيكاتها للفائزيْن، اللذين كانا - من حسن حظي - أديبين بـ (الموهبة) قبل أن يكونا ناقديْن أدبييْن بـ (الدراسة).
ومع لمعان عدسات المصورين.. لتسجيل (اللحظة) كنت أظن بأن الأمر قد انتهى، وما عليَّ إلا الهبوط من المنصة.. ولكن وقبل أن أهمَّ بذلك، كان الدكتور السلمي والأستاذ قزان.. يطلبان مني أن ألقي كلمة عن الجائزة لحاضري حفل توزيعها (الأول) بالتناوب مع جائزة (العواد)، ولم يدر بخاطري طلباً كهذا.. ودون إخطار مسبق..!؟ إلا أن (اللحظة) لم تكن تحتمل أي قدر من التردد.. وهو ما جعلني أتوجه إلى ركن المتحدثين.. فأرى رؤساء الأندية الأدبية ونجوم الأدب والفكر وأساتذة النقد الأدبي.. وهم يحتلون الصفوف الأولى من القاعة، لأهنئ الفائزيْن، ولأتحدث بما جادت به تلك اللحظات.. عن (الجائزة) وقصتها.. لأداعب في النهاية أساتذة النقد والدراسات الأدبية بـ (مقولة) الباحث والناقد الألماني (جورج شتاينر): (النقاد.. براغيث في فراء المبدعين)..!! لأتعجل هبوطي بعدها.. فيستقبلني أحد الصحفيين الزملاء قائلاً: (كلمة جميلة)، وليقول آخر: (إنها.. واقعية)..! وليقول ثالثهم: (ولكنها.. ثقيلة)!! وهو ما استقر في وعيي.. وجعلني أنتوي تطييب خواطر (النقاد)، والاعتذار لهم في أول مقال أكتبه، لأقول لهم صادقاً: عفواً و(معذرة).. نقادنا الأعزاء.