أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الرقعة العربية والإسلامية حقٌّ عربي بسلطانٍ إسلامي دون أيِّ مفهومٍ عربي قومي لا يُدْلِي بمشروعية الفتوح الإسلامية الكريمة.. والتراثُ الإسلامي إرثُ الأنبياء كلُّه مِن الإيجابيات والثوابت في تصوُّر العربي وسلوكه حسب ما يجب أن يكون؛ لأنه نص واضح صريح
على الإيمان بكل الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن القرآن مُصدِّق ما بين يديه، شاهدٌ على ما أُدْخل فيه من افتراء، قاضٍ بأن لكلِّ أمة شرعة ومنهاجاً، وأنَّ الملة واحدة، ثم ختم الله الشرائع بدين الإسلام.. والتراثُ العربي القومي العرقي ليس هو كلُّه من الثوابت والإيجابيات؛ بل فيه ثوابت أقرها الإسلام أو المعقول أو التجربة أو ضرورة الكيان، وفيه ما ليس معصوماً فكراً وأدباً وفناً وخلقاً وأخطاءً تاريخية؛ وهذه صفاتُ المتغيِّرات والمتطوِّرات؛ وإذن فلنا تراث قومي ذو طبيعة بشرية يعتورها السهو والنقص والجهل والمتغيِّرات؛ وقد يكون للتراث القومي بعض المِيزات على القوميات الأخرى، ولكنَّ هذا لا يعني عصمة تراثنا القومي العرقي ولا كِفايتَه، ولا يَعيبنا نقْصُ إرثنا الذي يُحوِجُنا إلى طلب المِيزات من التراث الآخر؛ لأجل دنيانا دون ديننا؛ لأن ديننا كاملٌ مهيمن معصوم إذا صحَّ دلالةً وثبوتاً.. وما نطلبه لدنيانا نأخذه تطبيقاً لا تأصيلاً؛ لأن ديننا تأصيلاً يحفزنا إلى كل ما يحقق لنا القيادة.. وأما التراثُ القومي غيرُ العربي الموجودُ في رقعتنا العربية والإسلامية: فليس هو تراثاً لنا، ولا مجال للمغالطة في هذا الادِّعاء، ولا نرفضه بإجمالٍ، ولا نأخذه بإجمالٍ؛ بل نأبى منه ما يأباه ديننا، وما فيه مِساس بكياننا لغة ورقعة وتاريخاً، ونصطفي منه مِيزةً تُغَذِّي موهبة الفكر البشري ومهارته؛ وهذا يعني اصطفاء المِيزة، وطرحَ المجمل.. على أنَّ ذلك مَحْضُ الاختيار الواعي، والمِيزة للإرادة العربية؛ وإنما يفخر التراث القومي غيرُ العربي الموجود في الرُّقْعَةِ العربية والإسلامية بما كان منه ميزة استحيتها أمة الإسلام التي أورثت أُمَّتَنا الرقعتين (الرقعة العربية، والرقعة الإسلامية) ببصيرة المسلم.
قال أبو عبدالرحمن: ولقد بدأتْ روحُ التجزئة بعصبيَّة إقليمية عند الدكتور طه حسين لَمَّا تبنَّى حضارة البحر الأبيض المتوسط (جنوبيِّه، وشماليِّه) تحت سِحْر شيخه اليهودي (مرجليوث)، مع الانبهار بحضارات معمارية أكثر منها ثقافية وفكرية.
قال أبو عبدالرحمن: يَظهَرُ لي أنه لم يَمُتْ على هذا المعتقد؛ لأن إشرافَه على تحقيق بعض كتب التراث، وجُهْدَه في مثل (حديث الأربعاء)، وبرنامِجَه الإذاعي (ديننا يُسْر لا عُسر): كلُّ ذلك دليل على تراجعه عن عقيدة التجزئة.. ثم تنفَّستْ الطائفيةُ والأحقاد المِلِّيَّة بدعوى أُمَّةٍ عربية تُسْقِط تاريخَ البعثة النبوية إلى هَيْضة نابليون، وتبدأ بالصَّنَم (بَعْلٍ) وتنتهي بأكثر مما انتهى إليه طه حسين في كتابه (عن مستقبل الثقافة بمصر).. وكان أشدُّهم جلداً (أدونيسَ) مع ضَعْفٍ صوت زوجتِه (خالدة).. ووقاحةُ فكرِه الأدبي: ظهرت صريحةً قبل ظهورِ السطو العسكري النصيري التحالفي على سوريا.. ولا يزال يتجدَّد حتى الآن منذ بِنْ سلامة، والمبخوت..إلى أركون، والمنصف بن عبدالجليل.. ولَمَّا لَمع نجمُ أدونيسَ مع رفاقه الطائفيين والمليين أصحابِ مجلات شعر وحوار ومواقف: استرحلوا الرَّمز المحبَّبَ من أجل توسيع الدلالة اللغوية، وإخصاب الذائقة الجمالية؛ ولكنَّ مدلَوله هجاءٌ عَفِنٌ لأمتنا؛ فتلقَّاه كثيرٌ من الشباب أوَّلَ الأمر.. ومن هذه الرموز الرملُ والعباءةُ والخيمةُ والقهرمان (جندُ الخليفةِ)، والمهرِّجُ - وهو يعمُّ الفقيهَ والأديب -.. إلخ.. وبعد نكسة حزيران خرجت عِياناً كلُّ سوءاتِ باطنيتِه القبيحة؛ فكان شعره وعيداً بأنيابٍ وقرون وسكاكين.. إلخ تطحن قرونَ الهجرة النبوية وما بعدها (وَقَدَرُهم يَخْسَأُ دون ذلك)، وجاء وعيده مسترحلاً (مهيارَ الدمشقي) القناعَ لمهيار المجوسي، والمنتجبِ العاني الذي هو رمز الهذْرُ الباطني.. وأما إشارة غالي شكري إلى حق المرأة في التراثَين اليهوديِّ والمسيحي: فذلك تضليلٌ أصلع؛ لأن شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تختلف في حقوق المرأة؛ لأن الحقوق المرتبطةُ بأسبابٍ ثابتة في الطبيعة البشرية: مِن الثوابت لا تتغيَّر؛ فلا تقبل النسخ؛ وإنما يوجد في التراث اليهودي فقط أعنفُ ظلمٍ للمرأة مِن تبديلٍ في اللاهوت الإلهي وافتراءِ تفسيرٍ في اللاهوت الطبيعي.. مع أنَّ حقَّ الأمِّ مِن البِرِّ في كل الشرائع ولا بُدَّ كحق الأب، ومِثْلُهُ مَعَهُ، ومَثْلُهُ معه أيضاً؛ لأن طبيعة المرأة الأمِّ سِنَّةٌ كونية لا تبديل لها، وما حكم الله به لها مِن البر متعلِّق بخصِّيصتها، ومثلُ هذا لا يقبل النسخ، ومع هذا نجد النص في التلمود البابلي من افتراء الحاخامات بتقديمِ حقِّ الأب، وهذا نابع من سيرتهم الْعَمَلَِّةِ والعقدية في حق المرأة؛ ولهذا كانوا لا يُؤاكلونها ولا يجالسونها في عوارضِ الأحداثِ كالحيض.. [قال أبوعبدالرحمن: انظر التلمود البابلي 1/85-86 مع اختلافٍ في النقل عن أسفارهم.. إلا أن أحد الحاخامات قال: «دع التكريم لأمك، وكرِّم أباك؛ لأن من واجبك أنت وأمك أن تكرما والدك «].. وفي ديننا الإسلامي مضاعفةُ بِرِّ الأم؛ وهذا من الشرائع التي لا تقبل النسخ؛ لأنه مُرْتَبِط بخصِّيصة من سنة الله الكونية في طبيعة الأم؛ فلا نسخ في الثوابت.. وفي ص87 تجاوزوا شرعَ الله في النهي عن مواقعة الحائض إلى الامتناع عن مجالستها، وهذا هو النص كاملاً: «المرأة نجسة في أيام حيضها؛ فهي لا تسكن مع زوجها في نفس البيت، أو تتخذ لها [الصواب: إلاَّ أنْ تَتَّخِذَ] غرفة أخرى من البيت لتعتزل فيها.. لا تجالس الرجل ولا تعاشره ولا تطبخ له الطعام.. وإذا عاشر الرجل زوجته متعمداً فإنه يُعرِّض نفسه للمحاكمة، وعقوبةِ الضرب بالسوط إذا كان عالماً بالنجاسة في بداية المعاشرة، وتقديمِ القربان إن كان ناسياً.. ولقد ورد في الكتاب المقدس تعاليمُ كثيرة تنهى عن الاقتراب من النساء في فترة حيضهن، وأَنَّ من ينتهك هذا التعليم فقد عصى، وقد أفرد (الكتاب الْمُقَدَّس) لهذا الموضوع كتاباً خاصاً يتعلق بنجاسة الإنسان وكيفية التطهر، وشروط تحقيق الطهارة.. قال الكتاب المقدس: (لا تقترب من المرأة خلال فترة نجاستها)؛ وهذا التحذير يؤكد ضرورة اعتزال النساء عند دُنُوِّ فترةَ حيضهن، وليس فقط في مدة الحيض، بل قبل المدة؛ وهذا الاعتزال قبل مدة الحيض يكون فترةً (أَوَانينِ) واحدة.. أيْ نهاراً كاملاً، أو ليلة كاملة حسب ما يبدو على المرأة من علامات الحيض.. وقال بعض الحاخامات: «إنَّ من يعتزل عن المرأة خلال فترة حيضها؛ فإنه يحصل على أولادٍ ذكورٍ».. وانظر 19/9 وما بعدها من صفحات عن نجاسة المرأة.. وتجد العجب العُجاب عن أحكام النساء (نَشِيْم) في المجلد الثامن].. بينما منطقُ الإسلام: (اتقوا الله في النساء فإنهن عوان بينكم..) الحديث.. إلخ، وألْزمَ الرجلَّ حقَّ القَوامَة نفقةً وحمايةً من ذئاب تخنق ولا تأكل، وصان كرامتَها أنْ تكون سلعةً شهوانية يُقْذف بها في مجاهل الضياع إذا ذَبُلَتْ زهرتها.. وإذْ راعى الإسلام زيادةَ حظِّ الرجل في الميراث من أجل أعبائه في النفقة والكدح، ومِن أجْلِ إراحةِ المرأة من كدح ليس من جِبِلَّتها: حَمَّل الأبَ والابن والقرابة والجيران وامجتمع مسؤوليةَ النفقةِ على المرأة إذا مات الرجل، أو فارقها بطلاق.. وهكذا مسؤولية العاقلة، ومسؤولية التكافل الاجتماعي الذي يتحمل أعباء الأرامل.. وما الأرملة إلا المرأةُ التي لا قَيِّم عليها.. وأمَّا التراث المسيحي فليس فيه إلا المرحمة من هذا الجانب مع ما دَخَل الدين من تأويلِ وتحريف.. والذي حدث في الغرب (بالغين المعجمة) من الدُّيوثةِ، وجَعْلِ كرامة المرأة سلعة، وحرمانِ الأسرة من النفقة والإرث العادل وصلة ذوي القربى والعاقلة والقَوَامة.. إلخ: فليس تراثاً مسيحياً؛ وإنما هو شيئ طرأ عليهم، وعلى تراثهم منذ النهضة المادية العلمية في أوربا القائمة على أنقاض التراث المسيحي إلى أن أصبح حقُّ الله مُسقَطاً بالإكراه الجبري بالقانون الوضعي.. وإلى إسقاط الخلافة الإسلامية والإمبراطوريتين المسيحيتين، ووراء ذلك مَن يعرفهم كل العالم من ذوي العمل الظلامي، وإلى لقاء عاجلٍ قريب إن شاء الله، والله المستعان.