أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من النصوص الشرعية ما فُهم على غير وجهه كقول الأستاذ زين العابدين الركابي رحمه الله تعالى - وقد كتبتُ هذا في حياته، وأرسلته له -: «شأنُ المرأة مثلُ شأن الرجل في أصل النشأة والتكوين».. ثم استدل بقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء } (1) سورة النساء..
[مجلة اليمامة عدد 1551 في 1/1/1420هـ]؛ فمن النقْص في الفهم الشرعي قوله: «فتح أبواب العطاء كلها أمام المرأة، وليس هناك قيد عليها إلا قيد الخُلق والآداب العامة «.. [المصدر السابق].
قال أبوعبدالرحمن: كلمة (الآداب العامة) من لغة (قاموس الآداب) البشريِّ الطارئ، وهو جزء مِن القانون الوضعي الْمُنَظِّمِ مصالِحَ عباد الله وَفْقَ قاموس الآداب؛ وهو الأخلاقُ الوضعيةُ النفعيةُ على مذهبِ أمثالِ (سْتِواتْ مِلّْ)، ثم يلي ذلك ما يُسَمَّى ( الأحوالَ [ النصبُ لأن نائب الفاعل (القانونيون)؛ فتلك الكلمة نابت عن ضمير ( يُسميَّه).. أي أنَّ هذا الحقلَ سمَّاه القانونيون] الأحوالَ الشخصيةَ كالزواج والانفصال والوِلاية والنفقة.. إلخ)، وهذا النظامُ ليس وَفْقَ شريعةِ خالقِ الذكر والأنثى الْعَليمِ بما يُصْلِحُهم، وبما هو أَصْلَحُ لهم سبحانه وتعالى؛ وإنما هو لتنظيم البغاء، وحرية التراضي بين الجنسين (ويُسَمَّى بوليس الآداب العامة):أيْ القانونَ لما هو غيرُ قانوني.. والمرأةُ مُقيَّدة - إن لم تُقيِّد نفسها - بأحكام الشرع التي هي الخُلُق والآداب العامة كما يُقَيِّدُها ضرورةُ الوظيفة، وفي قِمَّتِها الواجبُ البيتيُّ؛ من أجل سعادة سَكَنِها زوجاً وأسرة وبيتاً؛ وفي ذلك سعادتها هي.. وفتحُ أبواب العطاء مرهونٌ بفتح أبواب التكافؤ في الاستعداد، وقد أسلفتُ النص القرآني على أن الذكر ليس كالأنثى من سورة آل عمران، وأسلفتُ دعوى أنَّ شأنَ المرأة مثلُ شأن الرجل في أصل النشأة والتكوين بإطلاق، وَ بَيَّنْتُ أنَّ ذلك الزعمَ افتراءٌ على المُشاهَد مِن الطبيعة، ولم يُبيِّن وجه الدلالة من آية النساء التي ذكرها، ولا دلالة فيها على ما أراد.. ومن تلك النصوص التي فُهمتْ على غير وجهها قوله: «فالقرآن كرَّم الأم، وأعْلى شأنها: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) سورة القصص.. والقرآن كرم الأخت وأبرز دورها الفاعل، وشهد بذكائها وحصافتها: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ (سورة القصص/ 11-12).. والقرآن كرَّم البنت واحترمها وصوَّر كفاحها وأدبها: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) سورة القصص، والقرآن كرَّم الزوجة، وأبرز قُدُراتِها العقليةَ، وقوةَ شخصيتها في المطالبة بحقوقها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) سورة المجادلة «..[ المصدر السابق ].
قال أبوعبدالرحمن: لم يُبيِّن وجه الدلالة من هذه النصوص، ولا فَرْقَ بين هذا الاستدلال وبين استدلالِ مُـفتَرَضٍ مِن البشر يقول [والافتراضُ مِن أجل شرحِ تَصَوُّرِ المسألة المَطْروحَةِ؛ ويكون ذلك بالمثال الواقعي، وبالمثال الافتراضي]: «الصلاة واجبةُ، والدليل قوله تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) سورة النازعات!!؛ فكل هذا من التلاعب بكلام الله، ولستُ والله أجد بأيِّ دلالة مُحْتَمَلَة - ولو بأبعدِ طريق - أن قوله تعالى: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا (1) سورة النساء. يُنْتِجُ الزعم بأنَّ (شأن المرأة مثل شأن الرجل في أصل النشأة والتكوين «!!.. إلا من جهة أن الذكر والأنثى من خلق الله، وهذا ليس محل خلاف بين المسلمين،وأهل الكتاب الآخَرِين؛ بل شأنُ الرجل في أصل الخلق: غيرُ شأن المرأة؛ فهي تحيض وتلد، وجسمها أرق وأنعم، وليس الرجل كذلك.. وهكذا كان الفرْقُ في التشريع، ثم إن الآية التي استدل بها الركابي رحمه الله تعالى وعفا عنه: عليه، وليست له بنصها وتفسيرها؛ فأما النص فقوله تعالى: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ؛ والمراد نفس آدم عليه السلام، فالرجل هو الأصل.. وأما التفسير فعند قول الله تعالى: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ؛ فقد صح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المرأة خُلقت من ضلع أعوج، وإنَّ أعوجُ شيئٍ من الضلع أعلاه؛ فإن ذهبتَ تقيمه كسرته، وإنْ استمتعتَ بها استمتعت بها وفيها عِوَج «.. ولا حَجْر على حُرِّية التعبير من ذوي الاختصاص، وأما غيرُ ذوي التخصص فيسترشدون من ذوي الاختصاص.. وحريةُ التعبير مشروطة بالصدق وتحرِّي الحق.. ومِن حرية التدمير - لا حرية التعبير - التدليسُ كالكذب على الشرع، وحمْلُه على ما لا يُفْهَم منه؛ بل على ما يردُّه منطوقُ الشرع نفسِه.. كما أنَّ حْشْد النصوص الشرعيةِ مِن غير بيانِ وجه دلالتها تلبيسٌ مُضِرٌّ إذا تبيَّن أنه لا دلالة فيها.. وما أراد الركابي رحمه الله تعالى باجتهاده إلا الخير، ولكنَّ الناعقين بالمغالطاتِ على حساب دينهم يفرحون بأيِّ اجتهاد خاطِئ مِن كاتبٍ مرموق يوافق أهواأَهُمْ .. وموجز القول: ( أنَّ الَّزعْمَ بأنَّ الآية من سورة القصص كرَّمت الأم، وأعْلَتْ شأنها): ليس على إطلاقه؛ بل الآيةُ مِن أجْلِ حَقِّ الأُمُوْمَة وإن وُجِدَتْ أمٌّ خامِلةٌ؛ لأنَّ لِلْأُمِّ حقٌّ بإطلاق من جهة شرعِ الله الذي رَحِـمَها؛ فأجب الْبِرَّ بها، وأن تكون طاعمة كاسيةً مُتَفَرِّغةً لوظيفتِها التي شرعها الله لها؛ وذلك بنصوص برِّ الوالدين كما في سورتي الإسراء والأحقاف، وقد ميَّز الرسول صلى الله عليه وسلم الأمَّ على الأب في حقوق البر.. وأما إيحاء الله إلى أم موسى فهو خبر ليس فيه تشريع، وليس عن كلِّ أم؛ وإنما هو عن أم موسى عليهما السلام.. فَضَّلها ربها بالإيحاء إليها رحمةً لها، ولابنها؛ فَحَفِظَ الله ابنها موسى عليه الصلاة والسلام المصطفى للرسالة، وأرجعه إليها، وجَعَلَه من المرسلين؛ فهذا فضل وهْبِيٌّ لأمٍّ مُعيَّنة؛ فأيُّ فضلٍ لكلِّ أُمٍّ غيرُ البِرِّ بها؛ فهو فضْلٌ وَهْبِيٌّ، وليس فضلاً كسبياً لكل أمٍّ، وليس هو فضل جِبلَّةٌ في نفسِ كلِّ امرأةٍ.. وحنانُ الأم وخوفُها على ولدها جِبِلَّة فطرية لدى المؤمنة والكافرة.. والآية الحاديةَ عشرةَ من سورة القصص عن أختٍ واحدة مُعَيَّنة، وليست عن كل أخت؛ فليستْ كل أخت قد شهد الله بذكائها وحصافتها؛ بل ذلك من آيات الله الكونية لضمانة وعده الشرعي: بردِّ موسى عليه السلام إلى أمه، وأن يجعله من المرسلين.. وما ادَّعى أحدٌ أنَّ المرأةَ مبخوسةُ الحظِّ من الذكاء والحصافة.. وتفريقُ الله شرعاً بين الذكر والأنثى كما نراه في الْمُشاهدة: ليس لنقصٍ في ذكائها وحصافتها؛ بل ذلك لغلبة النسيان والعاطفة؛ لأن الأغلب في ذكاء المرأة ما يتعلق بوظائفها المتعلِّقة بخصائصها الفطرية.. وأما الآية الثالثةُ والعشرون من سورة القصص فليس فيها ألبتة أيُّ شيئ عن تكريم البنت، وتصوير كفاحها وأدبها؛ وإنما الكلام عن بنتِ نبيٍّ معيَّنة، وعن الثناء عليها؛ وذلك في غير هذه الآية، بل في قوله تعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء (25) سورة القصص، وليست كل بنت كذلك.. وحصافةُ أخت موسى عليهما السلام إنما هو ببرِّها؛ إذْ نفَّذت أمر والدتها، وسعتْ في استرداد أخيها، وليستْ كلُّ بنتٍ بارَّةً، وليستْ كلُّ بنتٍ عاقَّة.. وثناءُ الله على بنت شعيب عليهما السلام من أجل الاستحياء؛ فالمدح من أجلِ طاعَتِها شريعةَ ربِّها الذي أمرها بذلك؛ فتحلَّتْ بما أمرها الله به، وليس كلُّ امرأة كذلك، وليس كلُّ امرأةٍ عكْسَ ذلك؛ إذن النَّصُّ عن امرأة معينةٌ، وليس مدحاً لكلِّ أختٍ وبنتٍ.. ثم إنَّ الآية بعد ذلك عن ضَعْفِ أمِّ موسى رضي الله عنها؛ لأنَّه لا مَنَعَةَ لها ولا قوة؛ فهي تهرب بولدها خوفاً عليه ولم تَجْنِ جنايةعلى أحد.. وهكذا بنتا شعيب عليهم الصلاةُ والسلام لا تستطيعان المدافعة؛ وقد ذكرتْ غلبةَ أهلِ الرعاء بالسَّقْيَ؛ فهما لا تسقيان حتى يصدر الرعاء؛ فذلك دليل على ضعف المرأة.. والآية الأولى من سورة المجادلة لا تُنْتج تكريم كلِّ امرأةٍ، ولا تشهدُ لكلِّ امرأةٍ بأنها ذاتُ قُدُراتٍ عقليةٍ، ولا تشهد لكل امرأة بِقُوَّةِ شخصيتها في المطالبة بحقوقها؛ بل تكريمُ الزوجةِ بنصوص أخرى مِن ناحية قيامِ الزوج بكلِّ شؤُوْنِها، والآية عن واقعةِ زوجةٍ واحدة لا عن كل زوجة، والقدرةُ العقلية لا تتجاوز شرحَها واقِعَةً واحدةً حصلتْ لها، وهي خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها.. قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرتُ له بطني؛ حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي: ظاهر مني.. فهذه عجوز كريمة حنَّـكَتْها التجارِب، وشرحتْ الواقع الذي حصل لها ببلاغة قومها العرب، وليس هناك طروحاتٌ فكرية تُبرِز قُدُراتِها العقلية، وقوةَ شخصيتها في المطالبةِ بحقوقها؛ بل جاءت مستضعفةً تقول: (اللهم إني أشكو إليك)، ولم يحضر زوجها للمخاصمة؛ ليُعْلَم قوةُ عارضتها وشخصيتها؛ وإنما جاءت لولي أمرٍ ينزل عليه الوحي عليه الصلاة والسلام؛ فعجَّل الله فرجَها بلا مرافعة من الطرفين، وذلك بنزول الآيات عن أحكام الظهار.. وجدالُها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليس جدالاً فكرياً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَقُم مقام زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه مُحاجَّاً لها، مبطلاً دعواها؛ وإنما كان عليه الصلاة والسلام يعظها ويقول: (يا خويلة: ابنُ عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه)، وهي ما برحتْ في مكانها تعيد شكواها؛ حتى تغشَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه؛ فنزلت آيات الظهار.. وإنما الثناء على هذه المرأة الفاضلة رضي الله عنها من أجل دينِها؛ لأنها فَرَّتْ من زوجها لما ظاهَرَ خوفاً من مواقعة الحرام، وكانت تظنه طلاقاً، ثم لما أظهر الله الحكم بالكفارة كانت بارَّة بزوجها، وإلى لقاء عاجلٍ قريب إن شاء الله، والله المستعان.