أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: عنيتُ بهموم المرأة في كتيِّبي (شِعْبُ بَوَّان)، وكتيِّبي (ذئاب تخنق ولا تأكل)، مع لمسات في حديث الشهر سِفْرِ (11)، ولكنَّ هذه الهموم في تجدَّدٍ؛ ولهذا أوالي ما يستجدُّ في أسفار كتابي (حديث الشهر) إن شاء الله تعالى، والمُهِمُّ في هذه الْعُجالة تحديدُ وجهٍ طرَح
مسائل المرأة فيما نقرؤه اليوم؛ فإما أن تُطرح قضيةُ المرأة من وجهة نظر شرعية، وإما أن تطرح من وجهة نظر بشرية.. فإن كان الأمر على الطرح الأول فلا بد أن نُقَدَّم لذلك بنصوص الشرع الصحيحة الصريحة؛ ليكون اجتهادنا وتفكيرنا في دائرة المقاصد الشرعية المرعيَّة.. وإنَّ كان الأمر على الطرح الثاني، وأن المرجع إلى التفكير العقلي بضروراته الفطرية والكسبية متحرِّراً من التقيُّد بأيِّ حق لله في التشريع: فالمنهج أن ينتقل الحوار إلى حقيقة الإيمان بالله وشرعه، وإلى المواجهة بالبراهين العلمية من الآفاق والأنفس، ومع هذا فالمفكر المسلم عنده الاستعداد للمطارحة العقلية البشرية البحتة؛ وليس ذلك تنازلاً منه عن حق ربه في التشريع، ولكنَّ ذلك عن ثِقَةٍ منه بأن العقل بكل بديهياته وضروراته الفطرية والكسبية مع المقتَضَى الشرعي وليس ضده.. والمرأة من وجهة نظر شرعية يستنبطها المُفكِّر المسلم من معاني نصوص دينه؛ وحينئذ يكون لها الصدارة في العرض؛ فأول ما أُصدِّر به قاعدة أصولية هي مفهومُ خطابِ الشرعِ الموجَّه للمؤمنين وللناس؛ فالأصل في الخطاب الشرعي دخول المرأة فيه حتى يقوم دليل صحيح على إخراجها منه.. وأما النصوص تفصيلاً فالذي خلق المرأة ذات خصوصية في تكوينها هو الذي أنزل الشرع الذي ساواها بالرجل في موضع كالقصاص، وميَّز الرجل في موضع كالإرث؛ لأن لها حقَّ النفقة والقوامة على أولياء أمرها.. ومن تفريقات الشرع بين الرجل والمرأة في الأحكام أنَّ شهادتها بنصف شهادة الرجل، وأنَّ القوامة للرجل، وتحت هذه القوامة أموركثيرة كتدبير النفقة، وأنْ يكون الطلاق بيد الرجل، وأنَّ الرجل (بشرط العدل) يتزوج أربعاً، وليس لها أن تتزوج غير واحد؛ لأن السنة الطبيعية لحفظ النسل والأنساب تقتضي ذلك؛ وكل هذه الأحكام ملائمةٌ سُنَّةَ الله الفطرية الكونية في تكوين المرأة.. ومن النصوص الفاصلة - وهي مما احتج به معالي فضيلة الشيخ الدكتور صالح الفوزان -(1): قولُه تعالى يقصُّ قول زوجة عمران (التي نذرت ما في بطنها من الولد؛ ليخدم بيت المقدس، ثم ظهر المولود أنثى): {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} (36 سورة آل عمران).. وقد يُعترض على هذا الاستدلال بأنَّ القول قولُ زوجة عمران لا قول الله؛ فهي ترى أن الأنثى لا تستطيع القيام بعمل الرجل؟.
قال أبوعبدالرحمن: لقد قصَّ الله ذلك عنها، ولم ينكره عليها؛ فكون الذكر ليس كالأنثى خبر قرآني بلا ريب؛ فهذه واحدة.. ثم إن الله سبحانه أطلع حِسَّنا وواقعنا على هذا الفارق، ورتَّب على ذلك أحكاماً شرعية.. وأفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي لم يدل دليل على خصوصيتها أسوة لنا؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21 سورة الأحزاب)، وهكذا ما رضيه الله لِسَكَنِهِ من زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: فهو قدوة لنا يُحمل على الندب والفضيلة إذا قام دليل على عدم الوجوب، ولم يقم دليل على خصوصيتهن.. وقد رضي لهن ربنا سبحانه الحكمَ الموجَّهَ إليهن في خطابه الكريم.. قال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (32-33) سورة الأحزاب)؛ فهن أسوة نساء المؤمنين في أنَّ الأصل أنْ تقرَّ المرأة في بيتها إلا لضرورة، وقوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} لبيان فضلهن، وليس ذلك لخصوصيتهن بالحكم، وإنما هو بمعنى أنهن الأَوْلى به؛ لأنَّ الله اشترط التقوى بقوله سبحانه: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}؛ فالحكم معلق بباعثه الذي هو التقوى، والتقوى مطلوبة من كل أحـد على سبيل الوجوب؛ فالأصل أن تقرَّ في بيتها وجوباً إلا ما استثنته الضرورة.. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها»؛ فهذا هو الأصل شرعاً في وظيفتها إلا لضرورة، وهذا الحديث الصحيح مُبَيِّنٌ أن {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أمر عام لنساء المؤمنين؛ لأجل مسؤولية الرعية في البيت.. والقَوامةُ المنصوص عليها في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (34 سورة النساء): مشروطةٌ بالتوجيه النبوي الكريم كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (واستوصوا بالنساء خيراً)، ومُعلَّلةٌ بأمرين:
أحدهما: الإنفاق؛ فالرجل هو المسؤول عن الكدح والكسب لينفق، وغير ذلك استثناءٌ للضرورة.
وثانيهما: الفضل؛ وهذا يؤكِّد ما سلف من خبر الله عن زوجة عمران، وأن قولها قد أقره الله.. وقد مهد الله لعباده بقبول النساء لخصوصية الرجل بقوله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} (32 سورة النساء)؛ وصحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على الرجال من النساء؛ فهذا يؤكد الخبرة البشرية أن المرأة أكثر إثارة للرجال إذا أبرزت مفاتنها؛ وهذا لا يعني أن الرجل لا يفتن المرأة، بل هو مثالٌ للفتنة بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أفعمياوان أنتما؟».. إلا أن الحكم للأغلب، وقد راعى الشرع المطهَّر الأمرين معاً ( الأغلبَ، وغير الأغلبِ)؛ فقال تعالى مخاطباً الجنسين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة النور/30-31).. والدعوةُ إلى تحرير المرأة من قيود الشرع اعتراضٌ على حكم الله الشرعي وكُفْر به، وسخط على قضاء الله الكوني في التفريق بين الجنسين.. وهذا التفضيل والممايزة شرعاً مساواة عادلة بمراعاة الفوارق في الفطرة الكونية، إِذْ المساواة ذات بُعْدَين هما: التسوية بين المتساويين، والتفريق بين المفترقين فيما افترقا فيه؛ وأما التسوية مع الفارق فهي الظلم والحيف، وتفريق الشرع تفريقٌ في الوظائف والاستعداد، وإحلالُ الحمِ في الواقعة المطابقة لـه؛ ولهذا جاءت التسوية في القصاص؛ لأنَّ كل نفس من الجنسين معصومةٌ، وجُعِلَ الجزاءُ الأُخْروي وَفْقَ العمل الصالح؛ فقد تفوق المرأةُ الرجلَ عند الله منزلةً إذا تفوقت في إيمانها.. قال تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} (195 سورة آل عمران)، وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} (124 سورة النساء)، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} (40 سورة غافر)، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97 سورة النحل).. وفرَّق بينهما في الجزاء حسب العمل.. قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (سورة التحريم10-12)، وإلى لقاء عاجلٍ قريب إن شاء الله، والله المستعان.