د.موسى بن عيسى العويس
* المشادة الكلامية التي تحولت إلى عراك وتشابك بالأيدي بين رجل وامرأة أمام المارة مشهد مؤسف ومستهجن أثار الرأي العام، وهو يستحق الإثارة، فتفاعل الجمهور معه ابتداء لكونه غير مألوف أن تمتد يد رجل غريب إلى امرأة أجنبية عنه بهذا الأسلوب المذل المهين.
* أول ما يخطر في ذهنك وأنت تشاهد المقطع، أو تقرأ عنه قول الشاعر ذي الأنفة والإباء، والمروأة والشهامة، والغيرة وكرم الأخلاق:
ولو كان خصمي فارساً لاتقيته
ولكنها أنثى تعزُّ وتكرمُ
* في مثل هذه المواقف يبدو جلياً محك التباين في شمائل الإنسان وأخلاقه وقيمه وسلوكه مع الناس، ورحابة صدره، وتحمله الأذى، وهو يخوض تجربة الحياة.
* الذي يشد الانتباه، ويدعو للتعاطف بعد رؤية المشهد هو الواقع الاجتماعي والأسري الأليم الذي أباحت فيه المرأة المسكينة المكلومة المستضعفة التي فقدت المعزّ والمعين، فالحادثة بطبيعة الحال اضطرتها إلى كشف ما كانت تستره وتدفن فيه آلامها أمام الناس، القريب والبعيد، إذ كانت ولا زالت تحتسب ذلك عند الله باق، كغيرها من تلك الفئات التي تعرضت لمثل تلك المشكلات، فكانوا كما وصفهم القرآن في أدق تعبير، وأجمل تصوير
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}.
* المرأة صاحبة الموقف تكاتفت عليها ظروف عديدة تنوء بحملها الجبال أقواها وأقساها وأشدها ألماً ووقعاً في النفس مصيبة (فقد الوالدين) بالصغر، فاليتم بكل إسقاطاته على الإنسان استوطن حياتها الخاصة والعامة، في الطفولة، وفي الشباب، ففي فقد الوالدين، يفقد الإنسان دفء الحنان، واللطافة في التوجيه، فتتحطم بعض الشخصيات القوية أحيانا، وتنكسر بعض النفوس المرهفة، إذ تظل في مرمى الانتقاد من الآخرين على أتفه الأسباب، وربما عانى العزلة والجفاء، فيدفن الإنسان حينئذ، وأمام هذا الواقع آلامه وحاجاته.
* ولم تكن المصيبة الثانية من حياة تلك المرأة بأقل وطأة من الأولى حينما لم يكتب لها الاستمرار في الحياة الزوجية، فكان الطلاق، وما أقساه على المرأة!! كارثة اجتماعية أخرى أحاطت بها، وبخاصة وقد حملت هم تربية ابنتيهما التي رزقت بهما، وكان هاجس الحياة الكريمة الشريفة العفيفة هي هاجس المرأة، إذ دفعها إلى البحث عن مصدر عيش تسد به رمق الحياة، وتدفع عنهما غوائل الزمن وتقلباته، لتكف بهذا العمل الشريف يدها عن سؤال الآخرين، وتتقي ذل العطاء، وألم المنع.
* تفاصيل هذه الحياة المثيرة حقاً، وبعد أن تداولها الإعلام تفاعل معها مجتمعنا الخير، فجدّ رجال الأعمال والموسرين، وأهل البذل والعطاء، فتسابقوا إلى مد يد العون والمساعدة، لتأتي المؤسسات الحكومية المعنية بذلك (وزارة الشؤون الاجتماعية) على خجل واستحياء، محاولة حفظ ماء الوجه، وتحاول أن تقدم ما لديها، مع اعتقادي أن تلك المرأة قد طرقت أبواب هذه الوزارة من قبل.
* مما يدعو للتساؤل انسحاب (وزارة العمل) من التعليق على المشهد، رغم أن القضية ربما تدخل في مشروع عمل المرأة في الأسواق التجارية، وما يحكم ذلك من لوائح وأنظمة وتعليمات سامية تحتاج إلى متابعة وتطبيق.
* ورغم أن القضية اتخذت مساراً جنائياً إلا أن ذلك لا يعني أن تظل الجهات الرقابية التي تعنى بمتابعة الشأن العام، أو ما يكون حديثاً للرأي العام أن تتدخل وتبحث في تلك اللوائح والأنظمة المنظمة لسوق العمل، إذ ربما يكون هناك تهاون أو تقصير، أو شبهة فساد إداري يحيط في متابعة وتطبيق الأوامر السامية ذات الصلة بعمل المرأة، والتنظيمات الخاصة بالعمل والعمال، فالمرجو أن تلتفت لهذا الموضوع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة)، وهي الرائدة في مبادرات عديدة، أو تحث شركاءها في العمل الرقابي، لتكون هذه القضية مدخلاً لبحث بيئة العمل من جميع أطرافها.