د. محمد عبدالله العوين
الإنسان ابن بيئته!
تلك حقيقة لا جدال فيها، حتى الأشجار والطيور والحيوانات والزواحف والسحالب تأخذ ألوان بيئتها وتكتسب طبيعتها، فإن كانت الطبيعة زاهية مخضرة مرتوية بالأمطار والأنهار والشلالات مكتسية بالورود والأزهار والأشجار اكتسبت منها الحيوانات والطيور والفراشات تعدد الألوان وجمال التشكيل وحيوية تدفق الحياة بتأثير الماء الجاري والغذاء الداني، أما إن انعدم الماء وشحت الأمطار والأنهار، جفت الأزهار وقلت الثمار واكتسبت البيئة لون التراب والغبار وامتد اللون الباهت إلى كل ما يدب ويهب على هذه الأرض الممحلة المقحطة، فصارت الحيوانات والطيور والأشجار والضباب والسحالب بلون التربة الجافة أو الجبال الشهباء أو الأودية الغبراء!
نحن نشبه بيئتنا!
ولنتأمل ما تنتجه جغرافيتنا الصحراوية، الجمال مثلاً أو ما بقي مما لم ينقرض من الغزلان أو الحباري أو الضباب، لنجدها مكتسبة لون التربة الجافة!
ليست هذه المقدمة إلا لتأكيد حقيقة ما اكتسبناه ونشأنا عليه وتعلمناه وتطبعنا عليه في نفوسنا من قوة مقاومة الجفاف وصبر على الحرمان وأمل لا ينفد في انتظار ما سيأتي من خير أو جمال أو نعمة منتظرة يأمر بها الله سبحانه في أي وقت يشاء.
وحين تتغير البيئة بنزول الأمطار وجريان الأودية واخضرار الأرض، وتكون البحيرات الصغيرة واعتدال الأجواء ولطف الهواء، ما أسرع ما تنقلب شخصياتنا من القوة أو القسوة وسرعة الانفعال بتأثير الجفاف إلى شخصيات أخرى، وكأننا لسنا نحن!
ننقلب فجأة ونتحول، ونغدو أبناء اليوم الممطر الزاهي الجميل، أبناء الطل والمطر والندى والبرد والبياض، نتخلق في لحظات سريعة عاصفة من جديد، ونتكون بشخصيات جديدة ليست شخصيات الأمس الجاف، بل ثمرة السماء الملبدة بالغيوم والبرق الكاشح أمام العيون والرعد المدوي كأعذب سيمفونية في الوجود والماء السخي النقي الطاهر العذب المنهمر من آفاق الغيب البعيد الذي لا يعلم أسراره ولا عوالمه المخفية إلا رب الأكوان ومنشئها.
ننقلب فجأة من القسوة إلى الرقة، ومن التقطيبة إلى ابتسامة كبيرة تستوعب كل ملامح الوجه، ومن الجفاف إلى العطاء، ومن سرعة الانفعال والاستعداد للدخول في معركة طارئة إلى التسامح والاعتذار وإعلان الود للجميع!
ما هذا الانقلاب المفاجئ فينا؟ وهل نحن الذين كنا بالأمس: الأكثر خشونة، والأعنف خصاماً، والأشد تقطيباً وقسوة؟!
كيف فعلت فينا الطبيعة فعلها الساحر الخفي، فغدونا الأكثر رقة وعذوبة، فالتحية معلقة على الشفاه، والبسمة مرسومة على الجبين، والضحكة جاهزة تكاد تنطق بها العيون، والأدب العالي في قيادة السيارات لا تخطئه النظرة الفاحصة وغير الفاحصة عند طلب الإذن بالتجاوز أو الالتفاف!
إن هذا الذي نحمله في دواخلنا من الجفاف ليس تكويناً فينا، فنحن جاهزون مهيئون لنكون أرق الناس وألطف من يسكن هذه الأرض من البشر، نحن من كتب أجمل قصائد العشق، ومن رسم بدم قلبه أبدع صور الحب، ومن تغنى بالوجد، وتنسك في محراب الجمال، لسنا مقدودين من صخر، ولا مكونين من مادة بلا ماء، ولا نملك أجساداً لا تنبض في دواخلها قلوب ترف وتعشق وتغني وتطرب!
آه.. ما أصبرنا وما أقوانا حقاً!
ما أكبر قدرات نفوسنا وأجسامنا على قسوة بيئتنا فينا!
وما أشد وأغنى ما نملكه من طاقة على الاحتمال لا تنفد ولا تملكها شعوب كثيرة على هذه الأرض!
ها نحن حين تهب علينا نسمة رخية أو مطرة رضية أو تتكون لوحة بديعة جميلة عابرة نكون أجمل الناس وأرقهم وأعذبهم!
تأملوا أين نغزو وكيف نكون في حالات الترحال إلى أرض الله الواسعة حين تتاح لأحدنا فرصة السياحة؟! لا نخطط ولا نفكر ولا نترحل إلا إلى ما يعيد فينا نسغ الحياة من جديد: النهر والمطر والبحيرة والشلال والخضرة والوجه الحسن!
نحن أبناء الصحراء الجافة الأشد قوة وقسوة في الظاهر، لكننا والله الأكثر عذوبة ورقة وضعفاً أمام الجمال!